الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والتعرض للأموات أشد ، قال مسروق دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت : ما فعل فلان لعنه الله . قلت توفى : . قالت : رحمه الله . قلت : وكيف هذا ؟ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الأموات ؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وقال صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الأموات ، فتؤذوا به الأحياء وقال صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، احفظوني في أصحابي وإخواني وأصهاري ، ولا تسبوهم ، أيها الناس ، إذا مات الميت فاذكروا منه خيرا .

فإن قيل : فهل يجوز أن يقال : قاتل الحسين لعنه الله ، أو الآمر بقتله لعنه الله ؟ قلنا : الصواب أن يقال : قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله ; لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة فإن وحشيا قاتل حمزة عم رسول الله قتله وهو كافر ، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعا ولا يجوز أن يلعن والقتل كبيرة ، ولا تنتهي إلى رتبة الكفر ، فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق ، كان فيه خطر وليس في السكوت خطر ، فهو أولى .

وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها والمؤمن ليس بلعان فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين فالاشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ، ففي السكوت سلامة .

قال مكي بن إبراهيم كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه وابن عون ساكت فقالوا يا ابن عون : إنما نذكره لما ارتكب منك فقال : إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة ; لا إله إلا الله ، ولعن الله فلانا ، فلأن يخرج من صحيفتي لا إله إلا الله أحب إلي من أن يخرج منها لعن الله فلانا وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أوصني . فقال : أوصيك أن لا تكون لعانا .

التالي السابق


( والتعرض للأموات أشد، قال مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمداني الوداعي أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه، عابد، مخضرم، مات سنة اثنتين وستين: ( دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: ما فعل فلان لعنه الله. قلت: توفي. قالت: رحمه الله. قلت: وكيف هذا؟ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) قال العراقي : رواه البخاري ، وذكر المصنف في أوله قصة لعائشة رضي الله عنها، وهو عند ابن المبارك في الزهد والرقائق مع القصة. اهـ .

قلت: رواه البخاري من طريق مجاهد وعائشة ، وكذلك رواه أحمد والنسائي من تلك القصة، وفي تاريخ ابن النجار بلفظ: "إلى ما كسبوا" . وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو عبيدة بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني أبي، حدثنا إياس الأفطس ، حدثنا عطاء بن أبي رباح قال: "ذكر رجل عند عائشة ، فنالت منه، فقالوا: إنه قد مات. فترحمت عليه وقالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تذكروا موتاكم إلا بخير".

(وقال صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات، فتؤذوا الأحياء ) ، قال العراقي : رواه الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة ، ورجاله ثقات، إلا أن بعضهم أدخل بين المغيرة وبين زياد بن علاقة رجلا لم يسم. اهـ .

قلت: وكذلك رواه [ ص: 491 ] أحمد والطبراني ، ورواه الطبراني أيضا من حديث صخر الغامدي .

(وقال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، احفظوني في أصحابي وإخواني وأصهاري، ولا تسبوهم، أيها الناس، إذا مات الميت فاذكروا منه خيرا ) قال العراقي : رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عياض الأنصاري : "احفظوني في أصحابي وأصهاري" ، وإسناده ضعيف، وللشيخين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة : "لا تسبوا أصحابي" ، ولأبي داود والترمذي ، وقال: غريب من حديث ابن عمر : "اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم" . وللنسائي من حديث عائشة : "لا تذكروا موتاكم إلا بخير" . وإسناده جيد. اهـ .

قلت: حديث عياض تمامه: "فمن حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله عنه، ومن تخلى الله عنه أوشك أن يأخذه" . رواه كذلك البغوي والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة، وابن عساكر .

وأما حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند الشيخين فتمامه: "فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" . وكذلك رواه الطيالسي وأحمد وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود والترمذي وابن حبان من حديث أبي سعيد ، ورواه ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة ، وعند الدارقطني في الأفراد من حديث أبي سعيد : "لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي، فوالذي نفسي بيده.." ، الحديث، وعند ابن النجار من حديثه: "لا تسبوا أصحاب محمد، فوالله لئن سلكتم طريقهم لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا" .

وأما حديث ابن عمر : "اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم" ، فرواه أبو داود في الأدب، والترمذي في الجنائز، من طريق معاوية بن هشام ، عن عمران بن أنس المكي ، عن عطاء عن ابن عمر رفعه بهذا، ورواه أيضا الطبراني ، وقال كالترمذي : إنه غريب، ورواه الحاكم وقال: إنه صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وعند أبي داود من طريق وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة قالت: "إذا مات صاحبكم فدعوه، ولا تقعوا فيه" ، وكذا هو عند الطيالسي من طريق عبد الله بن عثمان ، عن هشام .

وأما حديث عائشة عند النسائي : "لا تذكروا موتاكم إلا بخير" . فقد رواه من طريق منصور ابن صفية ، عن أمه عنها قالت: "ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء، فقال: لا تذكروا هلكاكم إلا بخير" .

(فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه الله؟ قلنا: الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله; لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة) ، وقد تقدم أنه لا يجوز لعن أحد إلا إذا تحقق موته على الكفر، فإن تاب قبل موته لم يجز لعنه، (فإن وحشيا) ابن حرب من سودان مكة ، (قاتل حمزة ) سيد الشهداء، (عم رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم أحد ، (قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعا) ، وأسلم، وحسن إسلامه، وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، (ولا يجوز أن يلعن والقتل كبيرة، ولا تنتهي إلى رتبة الكفر، فإذا لم يقيد بالتوبة) ، والإقلاع عن المعاصي، (وأطلق، كان فيه خطر) ؛ إذ لعن غير ملعن، (وليس في السكوت خطر، فهو أولى) ، وأليق بحال المسلم، (وإنما) أوردنا هذا البحث (لتهاون الناس باللعنة) ، وكثرة استعمالها، (وإطلاق اللسان بها) أي: في محاوراتهم، (والمؤمن) أي: الكامل (ليس بلعان) أي: ليس بذي لعن، فالصيغة للنسبة، كالتمار، واللبان، أو للمبالغة؛ فإنه ربما يصدر عن المؤمن في حال من أحوال الغضب، أو الغفلة، وهو مذموم، وهذا قد تقدم من حديث ابن عمر : "لا يكون المؤمن لعانا" . (فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات من الكفر) ، وتحقق منه ذلك بأمارات ظاهرة، (أو على الأجناس المعروفين بأوصاف) كالكافرين والظالمين، وآكلي الربا، وشاربي الخمر، وقاتلي النفس (دون الأشخاص المعينين) فلان وفلان، (فالاشتغال بذكر الله أولى) من هذا، (فإن لم يكن ذكر الله، ففي السكوت سلامة) ، ونجاة، وقال ابن عبد البر في التمهيد: الأصح هو أن نقول بأن يزيد لو أمر بقتل الحسين ، أو رضي بذلك، فإنه يجوز اللعن عليه، وإلا فلا، وكذا قاتله لا يكفر من غير استحلال. اهـ. ولا يخفى ما فيه من التناقض، حيث أطلق اللعن على مجرد الأمر بقتله ورضاه، وقيد قاتله بغير استحلال، فإن من المعلوم أن القتل أشد من الأمر بالقتل، مع أن قتل غير الأنبياء ليس [ ص: 492 ] بكفر عند أهل السنة، خلافا للخوارج ، وأهل البدعة، فلا شك أن السكوت أسلم، (وقال مكي بن إبراهيم) بن بشير بن فرقد التيمي البلخي أبو السكن، ثقة، ثبت، مات سنة خمس عشرة ومئة، وله تسعون سنة، روى عنه البخاري .

وروى له الباقون، (كنا عند ابن عون ) ، وهو أبو عون عبد الله بن عون بن أرطبان المزني، مولاهم البصري ، رأى أنس بن مالك ، ولم يثبت له منه سماع، وقال ابن مهدي : لم يكن بالعراق أعلم بالسنة منه، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين ومئة .

وروى له الجماعة، (فذكروا) عنده (بلال بن أبي بردة) بن أبي موسى الأشعري، أبو عمرو أمير البصرة وقاضيها، أخو سعيد بن أبي بردة ، وطالت ولايته، فمدحه الشعراء; منهم رؤبة وذو الرمة ، والفرزدق ، ذكره البخاري في الأحكام .

وروى له الترمذي حديثا واحدا، (فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه) بالسب والشتم، ( وابن عون ساكت) لا يتكلم بشيء، (فقالوا: إنما نذكره) بالسوء (لما ارتكبه منك) ، وكان قد آذاه، (فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة; لا إله إلا الله، ولعن الله فلانا، فلأن يخرج من صحيفتي لا إله إلا الله أحب إلي من أن يخرج منها لعن الله فلانا) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، قال: حدثني عبد الله بن محمد : سمعت مكي بن إبراهيم قال: كنا عند ابن عون .. فساق القصة كما هنا سواء، ( وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني. فقال: أوصيك ألا تكون لعانا ) أي: لا تكن ذا لعن، وصيغة المبالغة هنا غير مرادة، قال العراقي : رواه أحمد والطبراني ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني من حديث جرموز الهجيمي ، وفيه رجل لم يسم، أسقط ذكره ابن أبي عاصم . اهـ .

قلت: وكذلك رواه البخاري في التاريخ، كلهم من طريق عبيد الله بن هوزة عن رجل من بلهجيم عن جرموز القريعي البصري ، قال ابن أبي حاتم وابن السكن : له صحبة، ونسبه ابن قانع فقال: جرموز بن أوس بن جرير الهجيمي .

قال الحافظ ابن حجر : ورأيت في رواية قال ابن هوزة : حدثني جرموز .. فذكره، فلعله سمعه منه بواسطة، ثم سمعه منه، والرجل المبهم في الرواية الأولى جزم البغوي وابن السكن أنه أبو تميمة الهجيمي ، قلت: أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، عن إبراهيم بن زياد سيان ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا عبد الله بن هوزة القريعي ، عن جرموز الهجيمي قال: "قلت: يا رسول الله، أوصني. قال: أوصيك ألا تكون لعانا" .




الخدمات العلمية