فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين ، يدفع عنه قواطع الطريق وهو ، أربعة أمور : الخلوة والصمت والجوع والسهر ، وهذا تحصن من القواطع ، فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه ويصلح لقربه .
أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قساوته سبب الحجاب ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات وقال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم وقال سهل بن عبد الله التستري ما صار الأبدال أبدالا إلا بأربع خصال بإخماص : البطون ، والسهر ، والصمت ، والاعتزال عن الناس ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر يشهد له التجربة ، وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين .
وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع فيصير القلب كالكوكب الدري والمرآة المجلوة فيلوح فيه جمال الحق ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها ، فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وإقباله على الآخرة والسهر أيضا نتيجة الجوع فإن السهر مع الشبع غير ممكن والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب ، فقد قيل في إن أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وقال صفة الأبدال : إبراهيم الخواص رحمه الله أجمع رأى سبعين صديقا على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء .
وأما الصمت فإنه تسهله العزلة ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه ويعلم التقوى . فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع
وأما حياة الخلوة فإنهما دهليز القلب والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص ، فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة ، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية . ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر
أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة فقيل ، له : يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر .
فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق ، وإنما سلوكه بقطع العقبات ولا عقبة على طريق الله تعالى إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض ، والترتيب في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل ، وهي تلك الصفات ، أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول الإرادة وآثارها أعني المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي ، فلا بد أن يخلي الباطن عن آثارها كما أخلى الظاهر عن أسبابها الظاهرة ، وفيه تطول المجاهدة ويختلف ذلك باختلاف الأحوال فرب شخص قد كفى أكثر الصفات فلا تطول عليه المجاهدة وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد ، كما سبق ذكره ، فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة ولم يبق في قلبه علاقة شغله بعد ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده وردا واحدا وهو لباب الأوراد وثمرتها أعني بعد الخلو من ذكر غيره ، ولا يشغله به ما دام قلبه ملتفتا إلى علائقه قال الشبلي للحصري إن كان يخطر بقلبك من الجمعة التي تأتيني فيها إلى الجمعة الأخرى شيء غير الله تعالى فحرام عليك أن تأتيني وهذا التجرد لا يحصل إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب ، حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال ، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال وعند ذلك يلقنه ذكرا من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلا : الله الله ، أو سبحان الله سبحان الله ، أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب ، ثم لا يزال كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته ، وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه ، لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره أي شيء كان فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره ، وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه مما قدر مضى من أحواله وأحوال غيره ، فإنه مهما اشتغل بشيء منه ولو في لحظة خلا قلبه عن الذكر في تلك اللحظة ، وكان أيضا نقصانا فليجتهد في دفع ذلك ومهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة جاءته الوساوس من هذه الكلمة وأنها ما هي وما معنى قولنا : الله ولأي معنى كان إلها وكان معبودا ، ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر ، وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة ومهما كان كارها لذلك ومتشمرا لإماطته عن القلب لم يضره ذلك وهي ، منقسمة إلى ما يعلم قطعا أن الله تعالى منزه عنه ، ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره ، فشرطه أن يبالي به ويفزع إلى ذكر الله تعالى ويبتهل إليه ليدفعه عنه كما قال الله تعالى : ملازمة القلب لذكر الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم وقال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإلى ما يشك فيه ، فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه ، بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة أو نشاط أو التفات إلى علقة أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه وأن يستره عن غيره ، فلا يطلع عليه أحدا ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته فلو ، علم أنه لو تركه وأمره بالفكر تنبه من نفسه على حقيقة الحق ، فينبغي أن يحيله على الفكر ، ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما يكشف له حقيقته ، وإن علم أن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد القاطع بما يحتمله قلبه من وعظ وذكر ودليل قريب من فهمه وينبغي أن يتأنق الشيخ ويتلطف به ، فإن هذه مهالك الطريق ومواضع أخطارها فكم ، من مريد اشتغل بالرياضة فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه فانقطع عليه طريقه ، فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة ، وذلك هو الهلاك العظيم ومن تجرد للذكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار فإنه ، قد ركب سفينة الخطر ، فإن سلم كان من ملوك الدين ، وإن أخطأ كان من الهالكين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم - : " عليكم بدين العجائز " وهو تلقي أصل الإيمان ، وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير ولذلك قيل يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد فإن لم يكن ذكيا فطنا متمكنا من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر بل يرده إلى الأعمال الظاهرة والأوراد المتواترة أو يشغله بخدمة المتجردين للفكر لتشمله بركتهم فإن العاجز عن الجهاد في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم ، وإن كان لا يبلغ درجتهم ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد يقطعه قواطع كثيرة من العجب والرياء والفرح بما ينكشف له من الأحوال وما يبدو من أوائل الكرامات ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغلت به نفسه كان ذلك فتورا في طريقه ووقوفا بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ، ولو أفيضت عليه ويدوم على ذلك ورأس ماله الانقطاع عن الخلق إلى الحق والخلوة .
قال بعض السياحين قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق : كيف الطريق إلى التحقيق فقال أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق وقال مرة : قلت له : دلني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام فقال لي : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة قلت : لا بد لي من ذلك قال فلا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة قلت : لا بد لي من ذلك قال فلا تعاملهم ، فإن معاملتهم وحشة قلت : أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم قال : فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة : قلت هذا لعلة : قال : يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين ، وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام ، هذا ما لا يكون أبدا .
فإذا منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلو عن غيره إلا بطول المجاهدة فإذا حصل قلبه مع الله تعالى انكشف له جلال الحضرة الربوبية وتجلى له الحق وظهر له من لطائف الله تعالى ما لا يجوز أن يوصف ، بل لا يحيط به الوصف أصلا وإذا انكشف للمريد شيء من ذلك ، فأعظم القواطع عليه أن يتكلم به وعظا ونصحا ويتصدى للتذكير فتجد النفس فيه لذة ليس وراءها لذة ، فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات وشواهد القرآن والأخبار وتحسين صنعة الكلام لتميل إليه القلوب والأسماع فربما يخيل إليه الشيطان أن هذا إحياء منك لقلوب الموتى الغافلين عن الله تعالى ، وإنما أنت واسطة بين الله تعالى وبين الخلق تدعو عباده إليه ومالك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه من يكون أحسن كلاما منه وأجزل لفظا وأقدر على .استجلاب قلوب العوام ، فإنه يتحرك في باطنه عقرب الحسد لا محالة إن كان محركه كيد القبول .
وإن كان محركه هو الحق حرصا على دعوة عباد الله تعالى إلى صراطه المستقيم ، فيعظم به فرحه ويقول : الحمد لله الذي عضدني وأيدني بمن وازرني على إصلاح عباده كالذي وجب عليه مثلا أن يحمل ميتا ليدفنه إذ وجده ضائعا وتعين عليه ذلك شرعا فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه والغافلون موتى القلوب والوعاظ هم المنبهون والمحيون لهم ففي كثرتهم استرواح وتناصر فينبغي أن يعظم الفرح بذلك وهذا عزيز على الوجود جدا فينبغي أن يكون المريد على حذر منه ، فإنه أعظم حبائل الشيطان في قطع الطريق على من انفتحت له أوائل الطريق فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ولذلك قال الله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا ثم بين أن الشر قديم في الطباع ، وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى فأما ، تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي ، فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه ، أعني به الشهوات المتعلقة بها ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأسا وتمسك من الدين بما فيه الرياسة ، وغلب عليه الغرور .
فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب إن شاء الله تعالى كتاب في كسر شهوة البطن والفرج وكتاب في آفات اللسان ، وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد ، وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها وكتاب في ، كسر حب المال وذم البخل ، وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه وكتاب في ذم الكبر والعجب ، وكتاب في مواقع الغرور وبذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من ربع المهلكات إن شاء الله تعالى . فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات ، وما ذكرناه في الكتاب الثاني هو إشارة كلية إلى طريق تهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب ، أما تفصيلها فإنه يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى تم كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق بحمد الله وعونه وحسن توفيقه يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب كسر الشهوتين والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى ، كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
.
[ ص: 381 ]