الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولاختلافها سببان : أحدهما قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود ، فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان ، ولكن أصعبها أمرا وأعصاها على التغيير قوة الشهوة ، فإنها أقدم وجودا إذ الصبي في مبدإ الفطرة تخلق له الشهوة ثم بعد سبع سنين ، ربما يخلق له الغضب وبعد ذلك يخلق له قوة التمييز .

والسبب الثاني أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسنا ومرضيا ، والناس فيه على أربع مراتب .

الأولى وهو الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خاليا عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضا باتباع اللذات فهذا سريع القبول للعلاج جدا فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة ، فيحسن خلقه في أقرب زمان .

والثانية : أن يكون قد عرف قبح القبيح ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقيادا لشهواته وإعراضا عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه ولكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه ، إذ عليه قلع ما رسخ في نفسه أولا من كثرة الاعتياد للفساد والآخر أن يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح ولكنه بالجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم .

والثالثة : أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى عليها فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على الندور وذلك لتضاعف أسباب الضلال .

والرابعة : أن يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره وهذا هو أصعب المراتب وفي مثله قيل ومن العناء رياضة الهرم ومن : التعذيب تهذيب الذيب .

والأول من هؤلاء جاهل فقط .

والثاني جاهل وضال .

والثالث جاهل وضال وفاسق .

والرابع جاهل وضال وفاسق وشرير .

وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به وهو قولهم إن الآدمي ما دام حيا فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائر هذه الأخلاق ، فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات ؛ فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان ولو انقطعت .

شهوة الوقاع لانقطع النسل ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك .

ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك على إمساك المال ، وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية ، بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية ، وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعا وبالجملة أن يكون في نفسه قويا ، ومع قوته منقادا للعقل ولذلك قال الله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم وصفهم بالشدة ، وإنما تصدر الشدة عن الغضب ، ولو بطل الغضب لبطل الجهاد وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب ، بالكلية والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك إذ ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ، وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ، ولكن لا يقول إلا حقا ، فكان عليه السلام لا يخرجه غضبه عن الحق ، وقال تعالى: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ولم يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه ، بل يكون العقل هو الضابط له والغالب عليهما ممكن وهو المراد بتغيير الخلق ، فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها عن الانبساط عن الفحش، وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال ، فدل أن ذلك ممكن ، والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها ، والذي يدل على أن المطلوب الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق محمود شرعا وهو وسط بين طرفي التبذير والتقطير ، وقد أثنى الله تعالى عليه فقال: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقال تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والخمود قال تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين وقال في الغضب: أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال صلى الله عليه وسلم: خير الأمور أوساطها وهذا له سر وتحقيق وهو أن السعادة منوطة بسلامة القلب عن عوارض هذا العالم ، قال الله تعالى : إلا من أتى الله بقلب سليم والبخل من عوارض الدنيا والتبذير ، أيضا من عوارض الدنيا وشرط القلب أن يكون سليما منهما أي لا يكون ملتفتا إلى المال ولا ، يكون حريصا على إنفاقه ولا على إمساكه فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق ، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك فكان ، كمال القلب أن يصفو عن الوصفين جميعا وإذا لم يكن ذلك في الدنيا طلبنا ما هو الأشبه لعدم الوصفين وأبعد عن الطرفين وهو الوسط ، فإن الفاتر لا حار ولا بارد بل هو ، وسط بينهما ، فكأنه خال عن الوصفين ، فكذلك السخاء بين التبذير والتقتير ، والشجاعة بين الجبن والتهور ، والعفة بين الشره والجمود ، وكذلك سائر الأخلاق ، فكلا طرفي الأمور ذميم هذا ، هو المطلوب ، وهو ممكن ، نعم يجب على الشيخ المرشد للمريد أن يقبح عنده الغضب رأسا ، ويذم إمساك المال رأسا ، ولا يرخص له في شيء منه لأنه لو رخص له في أدنى شيء اتخذ ذلك عذرا في استبقاء بخله وغضبه ، وظن أنه القدر المرخص فيه فإذا ، قصد الأصل وبالغ فيه ولم يتيسر له إلا كسر .

سورته بحيث يعود إلى الاعتدال ، فالصواب له أن يقصد قلع الأصل حتى يتيسر له القدر المقصود ، فلا يكشف هذا السر للمريد ، فإنه موضع غرور الحمقى إذ يظن بنفسه أن غضبه بحق وأن إمساكه بحق .

التالي السابق


ثم ذكر المصنف أسباب اختلاف الجبلات فقال: (ولاختلافها سببان أحدهما قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود ، فإن قوة الشهوة والغضب والتفكر موجودة في الإنسان ، ولكن أصعبها أمرا وأعصاها على التغيير قوة الشهوة ، فإنها أقدم القوى) الشهوية (وجودا) في الإنسان ، وأشدها به تشبثا وأكثرها منه تمكنا (إذ الصبي في مبدأ الفطرة تخلق له الشهوة) وتولد معه ، بل وفي الحيوان الذي هو جنسه ، بل في النبات الذي هو جنس جنسه (ثم بعد سبع سنين، ربما يخلق له الغضب) أي: قوته (وبعد ذلك) آخرا (تخلق له قوة) الفكر والنطق و (التمييز ، والسبب الثاني أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له) والانقياد إليه (وباعتقاد كونه حسنا ومرضيا ، والناس فيه على أربع مراتب) المرتبة (الأولى هو الإنسان الغفل) بضم الغين وسكون الفاء (الذي لا يميز بين الحق والباطل) من الاعتقاد (والجميل والقبيح) من الأفعال، (بل بقي كما فطر عليه) أي: جبل عليه (خاليا عن جميع الاعتقادات) الصحيحة والفاسدة كالأعراب وأهل السواد (ولم تتشمر أيضا شهوته باتباع اللذات فهذا) الذي وصفه ذكر (سريع القبول للعلاج جدا فلا يحتاج) في مزاولته (إلا إلى تعليم مرشد) كامل يهديه إلى طريق الخير

[ ص: 334 ] فيهتدي سريعا ، ومن هنا قال القطب الشعراوي: لقد أرشدت كذا وكذا من أهل السواد إلى الله تعالى ، فوصلوا واجتهدت في إرشاد من يهتم بطلب العلم ، فلم ينجح إلا في اثنين أو ثلاثة ، وما ذاك إلا أن لوح قلوب أولئك لم ينتقش فيه شيء من الاعتقادات ، فقبلوه سريعا ، وهؤلاء قد نقش في لوح قلوبهم بعض الاعتقادات فلم يسرعوا للقبول (وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة، فيحسن خلقه في أقرب زمان) .

المرتبة (الثانية: أن يكون قد عرف قبح القبيح لكنه لم يتعود العمل الصالح فزين له سوء عمله فتعاطاه) وتناوله (انقيادا لشهوته وإعراضا عن ثواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه) فأعمت بصيرته، (لكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول إذ تضاعفت الوظيفة عليه ، إذ عليه) أولا (قلع ما رسخ في نفسه من التعود للفساد) وذلك يستدعي مجاهدة لصعوبة القلع (والآخر أن يغرس في نفسه صفة التعود للصلاح) وهذا بأدنى مزاولة (ولكنه في الجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وحزم وتشمر) وساعدته مع ذلك العناية الإلهية .

المرتبة (الثالثة: أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى على ذلك) ، ولم يدخل عليه ما يخالفه إلى أن كبر عليه ، ورسخ اعتقاده ذلك في نفسه رسوخا تاما ، (فهذا تكاد تمتنع معالجته) ويعسر برؤه (ولا يرجى صلاحه إلا على الندور) والقلة؛ (وذلك لتضاعف أسباب الضلال) وهؤلاء كأهل البدع والضلالات من المعتزلة والروافض؛ فإنهم استحسنوا ما تلقفوه من آبائهم وشيوخهم تقرير الاعتقادات الفاسدة ، فرسخت في قلوبهم من حين نشئهم إلى أن كبروا عليها ، فلو تليت عليهم أساطير الأولين ببراهين واضحة لم تكد طباعهم تميل إلى سماعها ، وقد استحوذ الشيطان عليهم وحسن لهم ما اعتقدوه فلم ينجع فيهم طريق الإرشاد وأبطأت غرائزهم عن القبول .

المرتبة (الرابعة: أن يكون مع وقوع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويتباهى به) بين أقرانه (ويظن أن ذلك يرفع من قدره) ويعلي من شأنه، (وهذا هو أصعب المراتب) الأربعة (وفي مثله قيل: من التعذيب تهذيب الذيب) إذ هو مجبول على الشر والفساد فتهذيب أخلاقه بالأصل تعذيب نفس وتضييع وقت بلا فائدة ، وقالوا في ذلك:


إذا كان الطباع طباع سوء * فليس بنافع فيه الأديب



* (والأول من هؤلاء جاهل فقط ، والثاني جاهل وضال فقط) وهما يرشدان سواء كان المرشد شيخا أو باعثا من نفسه (والثالث جاهل وضال وفاسق ، والرابع جاهل وضال وفاسق وشرير) وهما لا يقبلان الإرشاد ، واعلم أن كمال الإنسان في الفضيلة بأربع درجات ، اثنتين في الاعتقاد، وهما أن يعتقد الجميل ويحصل اعتقاده من براهين واضحة وأدلة قاطعة لا عن شبهات واهية وإقناعات متداعية ، واثنتين في الفعل ، وهما أن يترك العادات السيئة فيجعلها بحيث يؤثرها ويتنعم بها ، وكما أنه يكمل بأربع درجات فإنه ينتكس بأربع درجات; درجتين في الاعتقاد وهما أن لا يعتقد من العلوم الحقية فيبقى منها غفلا، وأن يعتقد عن تقليد اعتقادا فاسدا فيتلطخ به درجتين في العمل ، وهما أن لا يتعود العادة الجميلة رأسا ، وأن يتعود على العادة القبيحة (وأما الخيال الآخر وهو أن الآدمي ما دام حيا فلا ينقلع عنه الغضب والشهوة وحب الدنيا وسائر هذه الأخلاق ، فهذا غلط) منشؤه التخيل الفاسد ، وقد (وقع) ذلك (لطائفة) من المتسمين بالعلم (ظنوا أن المقصود من المجاهدة) النفسية (قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها) وأن الإنسان لا يصير خارجا عن جملة البهائم وأسر الهوى إلا بإماتتها وإلا ضرته وغرته وصرفته من طريق الخلق ، وهذا لا بأس به (و) لكن (هيهات؛ فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة) ولحكمة اقتضت أن يبلى بها الإنسان (ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان) بيان ذلك الشهوة لو تصورت مرتفعة لم يمكن الوصول إلى الآخرة، وذلك أن الوصول إلى الآخرة

[ ص: 335 ] بالعبادة، ولا سبيل إلى العبادة إلا بالحياة الدنيوية ، ولا سبيل إلى الحياة الدنيوية إلا بحفظ البدن ، ولا سبيل إلى حفظه إلا بإعادة ما يتحلل منه، ولا يمكن إعادة ذلك إلا بتناول الأغذية ، ولا يمكن تناول الأغذية إلا بالشهوة ، فإذا الشهوة محتاج إليها مرغوب فيها ، وتقتضي الحكمة الإيجابية بإيجادها وتزيينها كما قال تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الآية ، ثم من تناول الأغذية بالشهوة تصدر شهوة الوقاع (ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل) ولا يمكن الوقاع بلا شهوة ، فإذا الشهوة مرغوب فيها لأجل ذلك أيضا، (ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه) ويستبيح حريمه؛ لكن مثلها كمثل عدو تخشى مضرته من وجه وترجى منفعته من وجه ، ومع عداوته لا يستغنى عن الاستعانة به ، فحق العاقل أن يأخذ نفعه ولا يسكن إليه ولا يعتمد عليه إلا بقدر ما ينتفع به ، وما أصدق في ذلك قول المتنبي إذا تصور في وصف الشهوة وإن قصدها ، فما أجود ما أرادها:


ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى * عدوا له ما من صداقته بد



وأيضا فهذه الشهوة هي المشوقة لجميع الناس من لذات الجنة؛ إذ ليس كل الناس يعرف اللذات المعقولة ، ولو توهمناها مرتفعة لما تشوقوا إلى ما وعدوا به من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمل ذلك على إمساك المال ، وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية، بل المطلوب ردها إلى) مرتبة (الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط) وهو خير الأمور وأعدلها (فالمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية ، وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعا) وهما الطرفان الرذيلان (وبالجملة أن يكون في نفسه قويا ، ومع قوته يكون منقادا للعقل) فلا يقدم على شيء يخالفه العقل؛ (ولذلك قال) الله (تعالى) في صفة الصحابة ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) فإنه وصفهم (بالشدة ، وإنما تصدر الشدة عن الغضب ، ولو بطل الغضب) عدمت الشدة الثابتة بنص القرآن ، وفي انعدامها انعدام الغضب، ولو بطل الغضب (لامتنع جهاد الكفار) المأمور به، (وكيف يقصد قلع الغضب، والشهوة بالكلية والأنبياء) عليهم السلام مع عصمتهم (لم ينفكوا عن ذلك ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " إنما أنا بشر يغضب كما يغضب البشر") . قال العراقي : رواه مسلم من حديث أنس ، وله من حديث أبي هريرة : " إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر " (وكان -صلى الله عليه وسلم- يتكلم بين يديه بما يكرهه فيغضب حتى تحمر وجنتاه ، ولكن لا يقول إلا حقا ، فكان الغضب لا يخرجه عن الحق) قال العراقي : رواه الشيخان من حديث عبد الله بن الزبير في قصة شراج الحرة فقال: إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. . . ولهما من حديث أبي سعيد الخدري : وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه. وله من حديث عائشة: ما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله . ولمسلم: وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه. الحديث . .

(وقال تعالى: والكاظمين الغيظ ولم يقل والفاقدين الغيظ) والكظم ستر الغيظ (فرد الشهوة والغضب إلى اعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه ، بل يكون العقل هو الضابط له والغالب عليه ممكن) متيسر ، (وهو المراد بتغيير الخلق ، فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على الفواحش ، وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال ، فدل أن ذلك ممكن ، والتجربة والمشاهدة تدل عليه دلالة بينة لا شك معها ، والذي يدل على أن المطلوب الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق مطلوب شرعا وهو وسط بين طرفي التبذير والتقطير ، وقد أثنى الله تعالى عليه فقال: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ) أي: لم يجاوزا حد الكرم ، (ولم يقطروا) أي: ولم يضيقوا تضييق

[ ص: 336 ] الشحيح .

وقيل: الإسراف هو الإنفاق في المحارم ، والتقتير منع الواجب ( وكان بين ذلك قواما ) أي: وسطا وعدلا ، سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما .

(وقال تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) تمثيلا لمنع الشحيح وإسراف المبذر، نهى عنهما أمرا بالاقتصاد بينهما الذي هو الكرم: فتقعد ملوما محسورا؛ أي فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التدبير ، ومحسورا أي: نادما أو منقطعا بك لا شيء عندك (وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والخمود قال تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا وقال في الغضب: أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : خير الأمور أوسطها) قال العراقي : رواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية مطرف بن عبد الله معضلا ، ورواه الحافظ أبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجياني في الأربعين العلوية من طريق أهل البيت من حديث علي ولا يصح اهـ .

قلت: ورواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد بسند مجهول عن علي مرفوعا ، وهو عند ابن جرير في التفسير من قول مطرف بن عبد الله ويزيد بن مرة الجعفي ، وللديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعا : " خير الأعمال أوسطها " في حديث أوله: دوموا على أداء الفرائض، وللعسكري من طريق معاوية بن صالح، عن الأوزاعي قال: ما من أمر أمر الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين لا يبالي أيهما أصاب الغلو أو التقصير . ولأبي يعلى بسند رجاله ثقات عن وهب بن منبه قال: إن لكل شيء طرفين ووسطا ، فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر ، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان ، فعليكم بالأوساط من الأشياء، وأنشد بعضهم:


عليك بأوساط الأمور فإنها * نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا



وأنشدنا شيخنا المرحوم أبو الحسن علي بن موسى الحسيني لبعضهم:


حب التناهي غلط * خير الأمور الوسط



(وهذا له سر وتحقيق وهو أن السعادة منوطة بسلامة القلب عن عوارض هذا العالم ، قال تعالى: إلا من أتى الله بقلب سليم ) أي: من الغش والكدر والنفاق أو من العوارض (والبخل من عوارض الدنيا، والجود أيضا من عوارض الدنيا وشرط القلب أن يكون سليما بينهما أي لا يكون ملتفتا إلى المال ، فلا يكون حريصا على إمساكه ولا حريصا على إنفاقه فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق ، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إليه ، وكأن كمال القلب في أن يصفو عن الوصفين جميعا) فإن كلا الوصفين مرضاة للشيطان تنشأ عنهما الغفلة ، وإذا صفا القلب كذلك صار محلا للمعرفة وتنزل أنوار التوحيد، (وإذا لم يكن ذلك في الدنيا طلبنا ما هو الأشبه بعدم الوصفين وأبعد عن الطرفين وهو الوسط ، فإن الفاتر) ذكر وافى حده أنه (لا حار ولا بارد، وهو وسط بينهما ، فكأنه خال عن الوصفين ، فكذلك السخاء بين التبذير والتقتير ، والشجاعة بين الجبن والتهور ، والعفة بين الشره والخمود ، وكذلك سائر الأخلاق ، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، فهذا هو المطلوب ، وهو ممكن جدا ، نعم يجب على الشيخ المرشد للمريد) السالك على يديه (أن يقبح عنده الغضب رأسا، ويذم إمساك المال رأسا ، ولا يرخص في شيء من ذلك) ولا يريه طريق الاعتدال في ذلك؛ (لأنه لو رخص) له (في شيء منه اتخذ ذلك عذرا في استبقاء بخله وغضبه ، وظن أنه القدر المرخص فيه ، وإذا قصد قلع الأصل وبالغ فيه لم يتيسر إلا كسر سورته) وقمع قوته (بحيث يعود إلى الاعتدال ، فالصواب له أن) لا يرخص في شيء من ذلك رأسا، بل (يطلب قلع الأصل حتى يتيسر له القدر المقصود ، فلا يكشف هذا السر للمريد ، فإنه موضع غرور الحمقى إذ يظن بنفسه أن غضبه بحق وأن إمساكه بحق) فيغتر بذلك فيقع

[ ص: 337 ] في النقصان والله الموفق .




الخدمات العلمية