الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن أبوابه: سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم فمن يحكم بشر على غيره بالظن بعثه الشيطان على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك أو يقصر في القيام بحقوقه أو يتوانى في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيرا منه ، وكل ذلك من المهلكات ولأجل ذلك منع الشرع من التعرض للتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم - : اتقوا مواضع التهم حتى احترز هو - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، روي عن علي بن حسين أن صفية بنت حيي بن أخطب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في المسجد ، قالت فأتيته فتحدثت عنده فلما أمسيت انصرفت فقام يمشي معي، فمر به رجلان من الأنصار ، فسلما ثم انصرفا ، فناداهما، وقال إنها صفية بنت حيي ، فقالا: يا رسول الله ، لا نظن بك إلا خيرا ، قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من الجسد ، وإني خشيت أن يدخل عليكما فانظر كيف أشفق صلى الله عليه وسلم على دينهما فحرسهما وكيف أشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهمة ، حتى لا يتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله فيقول : مثلي لا يظن به إلا الخير إعجابا منه بنفسه ، فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة ، بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم ولذلك قال الشاعر : .


وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار ؛ فإن الأشرار لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر ، فمهما رأيت إنسانا يسيء الظن بالناس طالبا للعيوب فاعلم أنه خبيث الباطن وأن ، ذلك خبثه يترشح منه ، وإنما رأى غيره من حيث هو فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق فهذه بعض مداخل الشيطان إلى القلب ، ولو أردت استقصاء جميعها لم أقدر عليه ، وفي هذا القدر ما ينبه على غيره ، فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان ومدخل من مداخله .

فإن قلت : فما العلاج في دفع الشيطان ? وهل يكفي في ذلك ذكر الله تعالى وقول الإنسان : لا حول ولا قوة إلا بالله فاعلم أن علاج القلب في ذلك سد هذه المداخل بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة وذلك مما يطول ذكره ، وغرضنا في هذا الربع من الكتاب بيان علاج الصفات المهلكات ، وتحتاج كل صفة إلى كتاب منفرد على ما سيأتي شرحه نعم إذا قطعت من القلب أصول هذه الصفات كان للشيطان بالقلب اجتيازات وخطرات ، ولم يكن له استقرار ويمنعه من الاجتياز ذكر الله تعالى ؛ لأن حقيقة الذكر لا تتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة وإلا فيكون الذكر حديث نفس لا سلطان له على القلب ، فلا يدفع سلطان الشيطان ، ولذلك قال الله تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون خصص بذلك المتقي فمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك ، فإن لم يكن بين يديك خبز أو لحم فإنه ينزجر بأن تقول له اخسأ فمجرد الصوت يدفعه ، فإن كان بين يديك لحم وهو جائع فإنه يهجم على اللحم ولا يندفع بمجرد الكلام فالقلب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد الذكر فأما الشهوة إذا غلبت على القلب دفعت حقيقة الذكر إلى حواشي القلب فلم يتمكن من سويدائه فيستقر الشيطان في سويداء القلب .

التالي السابق


(ومن أبوابه) العظيمة (سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ) قال ابن عباس: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا. أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب ، وروى الشيخان من حديث أبي هريرة : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث" وأخرج ابن مردويه من حديث عائشة مرفوعا: " من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه ، إن الله تعالى يقول: اجتنبوا كثيرا من الظن " (فمن يحكم بشر على غيره بالظن) والظن يخطئ ويصيب (بعثه الشيطان) أي: حمله (على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك أو) حمله على أن (يقصر في القيام بحقوقه) الواجبة عليه (أو يتوانى) أي: يتهاون (في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيرا منه ، وكل ذلك من المهلكات) وأصله الذي نشأت منه سوء الظن فليجتنبه، ليسلم من المهالك، (ولأجل ذلك منع الشرع من التعرض للتهم ، فقال -صلى الله عليه وسلم- : اتقوا مواضع التهم) قال العراقي : لم أجد له أصلا، قلت: أخرج الزبير بن بكار في الوفقيات عن عمر بن الخطاب، قال: من تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ، وأخرج البيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب قال: كتب لي بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " من عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه. (حتى احترز هو -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ، روي عن علي بن حسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمي زين العابدين ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور ، قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه ، توفي سنة ثلاثة وتسعين من الهجرة (أن صفية بنت حيي) بن أخطب الإسرائيلية أم المؤمنين تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خيبر ، وماتت في خلافة معاوية على الصحيح ، (أتته) زائرة (وقت الصبح ، وكان معتكفا في المسجد ، فتحدثت عنده ثم انصرفت) وانطلق معها يشيعها إلى دارها (فمر به رجلان من الأنصار ، فسلما) عليه (ثم انصرفا ، فناداهما وقال) لهما: (إنها صفية بنت حيي ، فقالا:) يا سبحان الله (يا رسول الله ، لا نظن بك إلا خيرا . قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في الجسد ، وإني خشيت أن يدخل عليكما) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث صفية ، ورواه أيضا أحمد والشيخان وأبو داود من حديث أنس، وقد تقدم في الصوم (فانظر كيف أشفق -صلى الله عليه وسلم- على دينهما فحرسهما) عن مرور ذلك الوهم في قلبهما، (وكيف أشفق) -صلى الله عليه وسلم- (على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهم ، حتى لا يتساهل العالم الورع) المتقي (المعروف بالدين) والصلاح (في أحواله فيقول: مثلي لا يظن به إلا الخير إعجابا بنفسه ، فإن أروع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم)

[ ص: 284 ] قال الشاعر:

*

( وعين الرضا عن كل عيب كليلة )

* أي: غاضة*

( ولكن عين السخط تبدي المساويا )

*

وذلك لأن الإنسان إذا غلب الحب على قلبه، ولم يكن له داع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل وأعماه عن الرشد ، وقال بعضهم في ذلك:

*

وعين أخي الرضا عن ذاك تعمى

*

(فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار؛ فإن الأشرار لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر ، فمهما رأيت إنسانا يسيء الظن بالناس طالبا للعيوب فاعلم أنه خبيث في الباطن ، وإن ذلك) أي: سوء ظنه (خبثه يترشح منه ، وإنما رأى غيره من حيث هو) والإناء يرشح بما فيه (فإن المؤمن يطلب المعاذير) أخرج أحمد في الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ، وفي الوفقيات للزبير بن بكار مثله بزيادة: وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، (والمنافق يطلب العيوب) ويتتبع العثرات (والمؤمن يسلم الصدر) من الغل والحقد في حق كافة الخلق (فهذه بعض مداخل الشيطان إلى القلب، ولو أردت استقصاء جميعه) على سبيل الإحاطة (لم تقدر عليه، وفي هذا القدر) الذي ذكر (ما ينبه على غيره ، فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان) يقاتل به المؤمن (ومدخل من مداخله) إلى القلب (فإن قلت: فما العلاج في دفع الشيطان؟) عن حي القلب، (وهل يكفي في ذلك ذكر الله تعالى) بأي وجه كان (وقول الإنسان: لا حول ولا قوة إلا بالله) وغير ذلك من الأذكار الواردة في السنة (فاعلم أن علاج القلب ذلك) أولا (سد هذه المداخل) التي هي عبارة عن أبواب هي تلك الأوصاف المذكورة (بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة) فإذا سلم القلب من دخوله عليه من هذه الأبواب فقد طهر ، فالكلام كله على التجنب عن هذه الصفات مهما أمكن ، وذلك مما يطول ذكره، (وغرضنا في هذا الربع من الكتاب بيان علاج صفات المهلكات، وتحتاج كل صفة إلى كتاب منفرد كما سيأتي) إن شاء الله تعالى (نعم إذا قطعت من القلب أصول هذه الصفات) وسدت مداخله منها (كان للشيطان بالقلب اجتيازات وخطرات، ولم يكن له استقرار) وتمكن بالكلية (ويمنعه من الاجتياز ذكر الله تعالى؛ لأن حقيقة الذكر لا تتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة) وذلك بعد التنصل عن العلائق وصدق التوبة والإنابة، (وإلا فيكون الذكر حديث نفس لا سلطان له على القلب ، فلا يدفع سلطان الشيطان ، ولذلك قال الله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) فإنه (خصص بذلك المتقي) فقال: إن الذين اتقوا فعلم من ذلك أن عمارة القلب بالتقوى شرط في تأثير الذكر ودفع صورة الشيطان ، (فمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك ، فإن لم يكن بين يديك خبز أو لحم ينزجر بأن تقول له اخسأ) أي: تأخر (فبمجرد الصوت يدفعه ، فإن كان بين يديك لحم) أو خبز (وهو جائع فإنه يهجم على اللحم) أو الخبز (ولا يندفع بمجرد الكلام) الزاجر (فالقلب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر بمجرد الذكر) ولا يحتاج في دفعه إلى معالجة (فأما الشهوة إذا غلبت على القلب دفعت حقيقة الذكر إلى حواشي القلب فلم يتمكن من سويدائه) أي: داخله (فيستقر الشيطان في سويداء القلب) فيحتاج إلى معالجة شديدة لإخراجه عنه .




الخدمات العلمية