الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والثالث : هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة ، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع وقوة البصر إنما هي بالعين .

وكذا سائر القوى ، ولسنا نتكلم في الجنود الظاهرة أعني الأعضاء ؛ فإنها من عالم الملك والشهادة وإنما نتكلم الآن فيما أيدت به من جنود لم تروها .

وهذا الصنف الثالث وهو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما قد أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس أعني : السمع والبصر والشم والذوق واللمس وإلى ما أسكن منازل باطنة وهي تجاويف الدماغ وهي أيضا خمسة فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ ثم يتفكر فيما حفظه فيركب بعض ذلك إلى البعض ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ ولولا خلق الله قوة الحفظ والفكر والذكر والتخيل لكان الدماغ يخلو عنه ، كما تخلو اليد والرجل عنه ، فتلك القوى أيضا جنود باطنة وأماكنها أيضا باطنة فهذه هي أقسام جنود القلب وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء بضرب الأمثلة يطول .

ومقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء ولكنا نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم .

التالي السابق


(والثالث: هو المدرك المتصرف للأشياء كالجواسيس) جمع جاسوس وهو الذي يتجسس الأخبار ويستخبر عنها (وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق وغيرها) كاللمس (وهي مبثوثة في أعضاء معينة ، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك) أما العلم فمعروف ، وأما الإدراك فهو إحاطة الشيء بكماله ، وهذا هو الإدراك الكامل ، وقد يكون ناقصا إذا لم يكن كذلك ، ولكل من هذه القوى إدراكات مخصوصة يأتي إن شاء الله ذكرها .

(ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من اللحم والشحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود) أما اللحم فهو حشو خلل الأعضاء وقوتها التي يندعم بها ، وهذا الحد تندرج فيه أنواع اللحم :

أحدها: اللحم الذي في العضل وهو أكثر ما في البدن .

الثاني: اللحم المفرد وهو لحم الفخذين، ولحم ظاهر الصلب وباطنه ، ولحم الأسنان ، وإنما احتيج إليه ليقوي أصول الأسنان ويمنع من التزعزع ، وهذا هو المسمى باللحم على الإطلاق .

والثالث: اللحم الفردي كلحم الأسنان ولحم الثدي ولحم الندة التي تحت اللسان وغير ذلك .

والرابع: السمين وهو ما يعلو على اللحم الأحمر ، ولأنواع اللحم مطلقا منافع مذكورة في محالها ، وأما الشحم فهو جسم أبيض لين في

[ ص: 213 ] الغاية أكثر لينا من السمين، مثل الإلية في ذوات الأربع ، وأما العصب فهو عضو أبيض لين الانعطاف، صلب الانفصال، منبته الدماغ أو النخاع ، وفائدته أن يتم به للأعضاء الحس ، وأما الدم فهو رزق البدن الأقرب إليه المحوط فيه ، وأما العظم فهو عضو مفرد ، وهو الذي أي جزء محسوس أخذت منه كان مشاركا للكل في الطبع والمزاج ؛ ولذلك يسمى متشابه الأعضاء وقد خلق صلبا ؛ لأنه أساس البدن ودعامة الحركات (فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع وقوة البصر إنما تدرك الشيء بالعين ، وكذا سائر القوى ، ولسنا نتكلم في الجنود الظاهرة أعني الأعضاء؛ فإنها من عالم الملك والشهادة) وهي ظاهرة لكل متأمل .

(وإنما نتكلم الآن فيما أيد به) القلب (من جنود لم تروها) وهي الباطنة (وهذا الصنف الثالث وهو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس أعني: السمع والبصر والشم والذوق واللمس) وتحقيق هذا المقام يستدعي إلى بسط كلام حاصله أن منفعة الأعصاب منها ما هي بالذات ومنها ما هي بالعرض ، والذي بالذات إفادة لدماغ بتوسطها لسائر الأعضاء حسا وحركة ، والذي بالعرض ؛ فمن ذلك تشديد اللحم وتقوية البدن والأعصاب ، مبدؤها الدماغ والنخاع ، فإن الدماغ لما لم يحتمل أن يكون منبتا لجميع أعصاب الحس والحركة إن لو نبت الجميع منه وهو مخلوق على مقداره إلا أن يبقى منها ما يبقى صغيرا لا يليق بنوع الإنسان ، ولو خلق كبيرا ليبقى بعد خروج الأعصاب منه قدر طبق بالنوع للزم منه آفات مذكورة في محالها ، فلذلك اقتضت المحكمة الإلهية أن يخلق جسما على طبيعة الدماغ متصلا به كالنهر الكبير الجاري من ينبوع عين وهو النخاع ، وهو جعله خليفة له في ذلك ، وحظي بخرز الظهر والسناس كما حظي الدماغ بالقحف ، وأخرج منه الأعصاب في مقابلة عضو عضو من الأعضاء ، كالجداول والسواقي التي تأخذ من النهر الكبير لتصل قوة الحس والحركة من الدماغ إلى الأعضاء بتوسط الأعصاب والنخاعية ، فمبدأ الأعصاب هو النخاع ، ثم إنه يصلب كلما بعد حتى يصير عصبا تام النوع ، وجميع الأعصاب الدماغية والنخاعية أزواج فرد من كل نبت من اليمين وآخر من اليسار سوى عصب واحد ، فإنه فرد لا زوج له وهو آخر النخاعيات ، فما نبت من الدماغ نفسه سبعة أزواج ، بها حس الحواس الخمسة ، وحس بعض الأعضاء كما سيأتي بيانه ، وإن كان حس اللمس منها عاما في جميع الجسد واللحم ، وإنما جعل هذه الأعصاب مبدأ الحواس الخمس دون النخاعيات؛ لأنها يجب أن تكون ألين من النخاعيات لدرك الحواس أسرع ، وتؤدي ما تدرك إلى القوى الباطنة كذلك ، وكان لينها مناسبا للين الدماغ بخلاف النخاعيات ، فإنها لما كان الاعتماد في الحركات إليها احتاجت إلى فضل صلابة لا يناسب ما ذكرنا ، وأيضا لما كانت الحواس في الرأس كان المناسب أن تكون الأعصاب الدماغية مبدأ لها ؛ لئلا تبعد المسافة بين المبدأ والمقصود ، فيلزم ما مرت الإشارة إليه من الآفات .

الزوج الأول من الأزواج السبعة الدماغية عصبتان مجوفتان منشؤهما من زائدي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي اللتين تصيران إلى المنخرين ، وبهما تكون حاسة الشم ، وقد فارقتا لين الدماغ قليلا ولم تلحقهما صلابة العصب ، وأخذ كل منهما أي من العصبتين إلى خلاف جهة منشئه ، فإذا بعدتا من منشئهما قليلا اتصلتا وأفضى ثقب كل منهما إلى الأخرى ، ويسمى ذلك مجمع النور ، وإنما جمعا ههنا لئلا يرى الشيء الواحد شيئين ، ولتكون للزوج السائلة إلى الحدقتين غير محجوبة من السيلان إلى الأخرى إذا عرضت له آفة ، ولذلك يصير كل واحدة من الحدقتين أقوى إبصارا إذا غمضت الأخرى وأصفى منها لو لحظت ، والأخرى لا تلحظ ، ولكن يستدعي كل عصبة بالأخرى ويستند إليها ويصير كأنها نبتت من قرب الحدقة ، ثم يفترقان ، وهما بعد داخل القحف ، فيصير شكلها هكذا ، ثم يخرجان من القحف ، وذكر جالينوس أنهما إذا التقتا في موضع التقاطع الصليبي انعطف النابت يمينا إلى الحدقة اليمنى والنابت يسارا إلى الحدقة اليسرى ، ثم يستدير كل منهما حول الرطوبة الزجاجية ويحتوي عليها بعد أن يصيرا عريضتين ويتسع ويغلظ شفتاهما فيوصلا إلى العينين خاصة البصر .

الزوج الثاني: منشؤهما خلف الزوج الأول يتفرقان في عضل العين فيوصل إليها قوة الحركة .

الزوج الثالث: منشؤهما منشأ الزوج

[ ص: 214 ] الثاني وعند طلوعهما من القحف ينقسمان أربعة أجزاء ، الثالث منها يخرج من الثقب الذي في العين ، ثم ينقسم ثلاثة أقسام ، الثالث منها ينحدر في الوجنة ، ثم ينقسم قسمين ، الثاني منها يتفرق في طرف الأنف والشفة العليا ، وفي الجلدة التي على الوجه ، ورابع الأجزاء المشار إليها ، أو لا ينحدر في اللحي الأعلى فيتفرق أكثره في طبقة اللسان ويوصل إليها حاسة الذوق .

الزوج الرابع : منشؤهما منشأ الزوج الثالث يتفرق في الطبقة المغشية لا على الحنك فيوصل إليها حسا خالصا فقط .

الزوج الخامس: هما مضاعفان كأنهما زوجان أحدهما زوج به حس السمع ومنشؤه خاصة من مقدم خلف منشأ الرابع ومدخله من ثقب المسامع ، وإذا صار فيه غشاه ، والثاني زوج يخرج من الثقب الذي في العظم الحجري المعروف بالأعمى ، ثم يختلطان بالزوج الثالث ، ويتصل أكثرهما بالعضلة العريضة التي تحرك الخد من غير أن يتحرك معه اللحي .

الزوج السادس: مخرجهما من الثقبين اللذين في منتهى الدرز اللامي ، ويخرج من كل منهما ثلاثة أعصاب: الأول يصير إلى أصل اللسان ليعين الزوج السابع في تحريك اللسان ، والثاني ينحدر إلى الصدر فيثقب ويتفرق منها شعب تصير إلى فم المعدة ، وبذلك صار بين المعدة والدماغ مشاركة بسببها يحصل الغثيان عند شم الروائح الكريهة ، ويحس ببرد الماء بين الحاجبين إذا شرب .

الزوج السابع: منشؤهما مؤخر الدماغ ثم ينقسم ويتفرق أكثره في عضل اللسان ، فهذه الأزواج السبعة التي ذكرناها وهي حس الحواس الخمس منبتها في الدماغ ، وأما ما ينبت من النخاع فأحد وثلاثون زوجا وفرد ، ولكل منها أعمال في أعضاء الحس لبعض الأعضاء على الفصيل الذي ذكره أهل التشريح .

(وإلى ما أسكن المنازل الباطنة وهي تجاويف الدماغ) الثلاثة على ما يجيء بيانها (وهي أيضا خمسة) وأشار إلى وجه الحصر بقوله: (فإن الإنسان بعد رؤية الشيء) بعينه (يغمض عينه) الباصرة (فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال) وتسمى هذه القوة بالمتخيلة ومن شأنها أن تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة الحادة بحيث يشاهد معا الحس المشترك كلما التفت إليه فهي خزانة للحس المشترك ومحله البطن الأول من الدماغ ، (ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ) وتسمى هذه بالقوة الحافظة، ومن شأنها ضبط الصور المدركة، وهي تأكد العقول واستحكامه في العقل ، (ثم يتفكر فيما يحفظه فيركب بعض ذلك إلى بعض) وهذه هي القوة المتفكرة ومن شأنها إطراق العلم للمعلوم ، (ثم يتذكر ما نسيه) ويعود إليه وهذه هي القوة المتذكرة ومن شأنها استحضار ما تقتنيه من المعرفة ، (ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات) وهذه هي المسماة بالحس المشترك (ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ) وهي المسماة بالحواس الخمسة الباطنة (فلولا خلق الله قوة الحفظ والفكر والذكر والتخيل لكان يخلو الدماغ عنه ، كما يخلو عنه اليد والرجل ، فتلك القوى أيضا جنود باطنة وأماكنها أيضا باطنة) .

قال الراغب في الذريعة: قد جعل الله تعالى للإنسان خمس قوى يدل على وجودها فيه ما يظهر من تأثيراتها . قوة الغذاء وبها يظهر النشو والتربية والولادة ، وقوة الحس وبها الإحساس واللذة والألم ، وقوة التخيل وبها تتصور أعيان الأشياء بعد غيبوبتها عن الحس ، وقوة النزوع وبها يكون الطلب للموافق والهرب من المخالف والرضا والغضب والإيثار والكراهة ، وقوة التفكر، وبها يكون النظر والعلم والحكمة والدراية والتدبير والمهنة والرأي والمشورة ، فأما القوى المدركة منها فخمس: الحواس والخيال والتفكر والعقل والحفظ ؛ فأما الحواس فلكل واحد منها إدراك مخصوص فللمس عشر إدراكات: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة والصلابة والرخاوة والثقل والخفة. وللذوق سبع: الحلاوة والمرارة والملوحة والحموضة والحرافة والعفوصة والعذوبة. وللشم اثنان: الطيب والنتن. وللسمع اثنان: الصوت الخفيف والصوت الثقيل. وللبصر إحدى عشرة: النور والظلمة واللون والجسم وسطحه وشكله ووصفه وأبعاده وحركاته وسكناته وأعداده ، فأدون هذه الإدراكات اللمس ثم الذوق ثم الشم ، فالنفس لا تكاد تستعين بها إلا

[ ص: 215 ] فيما يعود نفعه إلى صلاح الجسم ، وأرفع الإدراكات العقل ثم الفكر ثم التخيل ثم الحس ، إلا أن العقل والفكر يدركان الأشياء الروحانية ، فأما السمع والبصر فمتوسطان فإنهما يخدمان النفس والجسم ، وخدمتهما للنفس أكثر ، ويدركان الأشياء الجسمانية ، والتخيل متوسط بين العقل والفكر، وبين السمع والبصر ، فيأخذ تارة من السمع والبصر، ويسلم إلى العقل والفكر ، وذلك في حال اليقظة ، ويأخذ تارة من العقل والفكر ، ويسلم إلى السمع والبصر ، وذلك في حال النوم ، وفي شرح الشفاء للخفاجي عند ذكره الحواس الخمس الباطنة قد أنكرها قوم وأثبتها الحكماء على أنهم في إثبات أماكنها في حيص بيص اهـ . ملخصا .

قلت: وتحقيق الكلام فيه أن القوى المدركة خمس في الظاهر وخمس في الباطن ، فالخمس الظاهرة قوة البصر وموضعها عند التقاطع الصلبي بين العصبتين الآتيتين إلى العينين من شأنها إدراك الألوان والأضواء والأشكال والمقادير والحركات، وقوة السمع وموضعها العصب المفروش على الصماخ من شأنها إدراك الأصوات، وقوة الشم وموضعها الزائدتان من الدماغ الشبيهتان بحلمتي الثدي، من شأنها إدراك الرائحة المتصعدة مع الهواء المستنشق المتكيف بها ، وقوة الذوق وموضعها العصب المفروش على اللسان من شأنها إدراك الطعوم بتكيف الرطوبة اللعابية التي في الفم ، وقوة اللمس وموضعها الجلد وأكثر اللحم من شأنها إدراك الملموسات في حرها وبردها ورطوبتها ويبوستها وخشونتها وصلابتها وملاستها ولينها وخفتها وثقلها ، وأما الخمس الباطنة فمنها مدركة للصور المحسوسة بالإدراك الظاهر عند حضور المحسوسات وحال غيبتها وهي الحس المشترك المدرك لما يدركه الحواس الخمس الظاهرة ، وموضعه مقدم البطن المقدم من الدماغ وخزانته الخيال ، إذ فيه تجتمع صور المحسوسات بعد غيبتها عن الحواس الظاهرة ، فتحتفظ تلك الصور وموضعه مؤخر البطن المقدم ، ومنها مدركة للمعاني الجزئية التي ليست بمحسوسة القائمة بتلك الصور المحسوسة كصداقة زيد وعداوة عمرو ، وهي الوهم وموضعها البطن الأوسط وخزانته الحافظة وموضعها البطن المؤخر ، ومنها متصرفة وهي القوة التي تحلل الصور وتركبها وتحلل المعاني وتركبها ، فتارة تفصل الصورة عن الصورة والمعنى عن المعنى، والصورة عن المعنى ، وتارة تركب الصورة بها وبالمعنى وتارة تركب المعنى بها وبالصورة ، وهي إن استعملت في الأمور الجزئية تسمى متخيلة ، ومحل هذه القوة الدودة التي في وسط الدماغ ، والدليل على اختصاص هذه القوى بهذه المواضع اختلال فعلها بخلل هذه المواضع ، فإن الفعل إذا اختص بالموضع أورث الآفة في فعل القوة المختصة بذلك الموضع هذا على رأي الفلاسفة. وأما الأطباء فإنهم لما لم يعرفوا إلا حدوث الآفة في التخيل والفكر والذكر بعروض الفساد للتجاويف الثلاثة ، ولم يثبتوا إلا هذه القوى الثلاث: فالحس المشترك والخيال عندهم واحد وموضعها البطن المقدم من الدماغ ، وكذلك المتصرفة والوهم واحد عندهم ، وموضعهما البطن الأوسط وموضع الحافظة عندهم البطن المؤخر ، فلكل بطن من بطون الدماغ قوة واحدة عندهم ، كذا ذكره شراح الموجز. ونزيدك بيانا في تشريح الدماغ وما فيه من التجاويف .

فاعلم أن الدماغ جوهر رخو متخلخل أبيض اللون مركب من المخ والشريانات والأوردة ، وهو مجلل بالغشاء اللين الرقيق المسمى بأم الدماغ والسمحاق ، والغشاء الصلب الثخين الذي يلاقي القحف ، وهيئته شبيهة بمثلث قاعدته من جانب مقدم الرأس وزاويته التي يحيط بها الساقان من جانب المؤخر وأحد الغشاءين ، وهذا اللطيف مماس لجوهر الدماغ ومخالط له في مواضع ، والآخر مماس للقحف ، وللدماغ أيضا في أمكنة منه ، وجميع الدماغ منصف في طوله من مقدمه إلى مؤخره تنصيفا نافذا في حججه ومخه وبطونه ، وليس الدماغ مصمتا ، بل له تجاويف مملوءة أرواحا يفضي بعضها إلى بعض ، يسمى بطون الدماغ وهي ثلاثة. والتجويف الأول أعظم والوسطاني أصغر منه بالتدريج ، والمؤخر أصغر كذلك وهو منبت النخاع ، فكان النخاع ذنب الدماغ . وأما فضلات الدماغ فأكثرها يندفع في المجريين الأول عند الحد المشترك بين التجويف الأول والأوسط ، والثاني عند الحد المشترك بين التجويف الأوسط والأخير ، وبالدماغ يكون الحس والحركة للأعضاء ، أما الحس فبواسطة العصب اللين

[ ص: 216 ] وأما الحركة فبواسطة العصب الصلب ، ولما كان أكثر الأعصاب الحسية ينبت من مقدمه ، والصلبة من مؤخره جعل مقدمه ألين من مؤخره ، ولذا جعل التخيل في مقدم الدماغ لاحتياجه إلى سرعة انطباع الأشياء فيه ، ولا يتم ذلك. إلا باللين وجعل الحافظة في مؤخره لاحتياجها إلى جودة الإمساك الذي لا يتم إلا باعتدال من اليبس إذ الرطب السيال لا ثبات له ، وجعل الفكرة في الوسط لاحتياجها إلى اعتدال بين الرطوبة واليبوسة والوسط كذلك .

ووجدت بخط بعض المقيدين قال: وجدت بخط الحافظ ابن حجر ما لفظه: وقع في حال قراءتي مختصر ابن الحاجب الأصولي على شيخنا إمام الأئمة عز الدين ابن جماعة مفخر هذا العصر في الكلام على الفكر بعد تقريره وتحريره ما أخبرنا أنه تلقنه عن شيخه العلامة جار الله أنه تلقنه عن شيخه الشارح العلامة قطب الدين ابن الشيراز أنه أفاده في تشريح الدماغ ما مختصره جاءتني كيفية من حفظي بعد قراءتي المجلس أن في الرأس دائرة مفرطحة صورتها هكذا:

وأن الخط الأول وهو في مؤخر الرأس للحس المشترك ، وأن الخط الذي يليه خط خزانة الخيال ، وأن الخط الطويل الذي يليه وهو في وسط الرأس للحفظ ، وأن الخط الصغير الذي يليه خزانة الوهم ، وأن الخط الأخير المقصور وهو في مقدم الرأس ، وأن الخط الصغير المستطيل للفكر ، وأنه يسمى الدودة ، وإنما سمي بذلك لكونه ينقبض تارة وينبسط حال الفكر ، وأن من أراد مداواة حفظه ينبغي له أن يحلق وسط رأسه ، وإن فسد تصوره ينبغي له حلق مقدم رأسه إلى آخر كلامه المحرر في ذلك ، فولد لي الفكر أن نظمت فيما يتعلق بخط التصور هذين البيتين ، وما عنيت أحدا وأنشدته إياهما فاستحسنهما إجادة فضله ، فلما كان عند انفصالي من المجلس سألني أن أكتبهما ولا أهملهما ، فامتثلت أمره وعلقت هذه الأجوبة اللطيفة في هذه التذكرة ، وهذان البيتان المشار إليهما أولا:


لنا صديق دعواه غايتها * لم يدن منها سوى معلمه يحتاج في حال الخطاب إلى
* تحليقه الرأس من مقدمه



جعلت ذلك كناية عن فساد تصوره بناء على ما تقدم من ذلك التشريح وقلت أيضا:


لا تصحبن جهولا * وكفى عليك بنفسك
* فإن فعلت وإلا * فاحلق مقدم رأسك

.

ا هـ ما وجدته .

قلت: وقوله في خط الفكر أنه يسمى الدودة الذي ذكره أهل التشريح ما نصه: وللتجويف الأول يعني من الدماغ مجرى آخر وهو الزائدتان ينبتان من بطنيه المقدمين ، وأكثر فضلات هذا التجويف يندفع في هذا المجرى إلى الأنف والدروز ، والانعطافات التي في الدماغ جعلت كقطع الجوشن المنسوج بعضه ببعض ، ويسمى قاعدة سقف التجويف الأوسط ، وأجزاؤه التي في جانبيه أعني جانبي التجويف بالدودة لطول قليل في خلقتها مواز لطول الدماغ ، ولأجل حركة انقباضها وانبساطها فبالانبساط يطول وبالانقباض يقصر ، وينبسط عرضا كالدودة المتحركة ، ولأجل هذه الحركة يجعل في هذه القاعدة . . . ورز، بل هي قطعة واحدة لتكون أقوى في الحركة اهـ .

(فهذه هي أقسام جنود القلب وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء يطول) ؛ لأنه يحتاج إلى بسط مقدمات يخرج فيها عن القصد ، (ومقصود هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء) الذين يفهمون المقصود بأدنى عناية ، (ولكن نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم) ويسهل عليهم إدراكه فنقول :




الخدمات العلمية