الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الشرط الخامس : كونه قادرا ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها وقال ابن مسعود رضي الله عنه جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي ، بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروها يناله ، فذلك في معنى العجز وكذلك إذا لم يخف مكروها ولكن علم أن إنكاره لا ينفع ، فليلتفت إلى معنيين ، أحدهما عدم إفادة الإنكار امتناعا ، والآخر خوف مكروه ويحصل من اعتبار المعنيين أربعة أحوال أحدها : أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم فلا تجب عليه الحسبة بل ربما تحرم في بعض المواضع ، نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ، ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة إلا إذا كان يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات فيلزمه الهجرة إن قدر عليها ؛ فإن الإكراه لا يكون عذرا في حق من يقدر على الهرب من الإكراه .

الحالة الثانية : أن ينتفي المعنيان جميعا بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ، ولا يقدر له على مكروه ، فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة .

الحالة الثالثة : أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره ، لكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها ، ولكن تستحب ؛ لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين .

الحالة الرابعة عكس هذه، وهو أن يعلم أنه يصاب بمكروه ، ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها ، ويريق الخمر ، أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال ، ويتعطل عليه هذا المنكر ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه فهذا ليس بواجب ، وليس بحرام ، بل هو مستحب ، ويدل عليه الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة حق عند إمام جائر ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف ويدل عليه أيضا ما روي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى أنه قال : سمعت من بعض الخلفاء كلاما فأردت أن أنكر عليه وعلمت أني أقتل ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس، فخشيت أن يعتريني التزين للخلق ، فأقتل من غير إخلاص في الفعل فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قلنا : لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل ، وإن علم أنه يقتل ، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية ، وليس كذلك ، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ليس التهلكة ذلك بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى ، أي : من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه .

وقال البراء بن عازب التهلكة هو أن يذنب الذنب ثم يقول : لا يتاب علي .

وقال أبو عبيدة هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيرا حتى يهلك وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل ، جاز أيضا له ذلك في الحسبة ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف ، أو العاجز فذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم ؛ جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل ، إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق ، أو في تقوية قلوب أهل الدين وأما إن رأى فاسقا متغلبا وعنده سيف وبيده قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجها ، وهو عين الهلاك ؛ فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثرا ويفديه بنفسه ، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له ، بل ينبغي أن يكون حراما ، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه ، أو أقاربه ، أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة، بل تحرم؛ لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي ذلك إلى منكر آخر ، وليس ذلك من القدرة في شيء ، بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر ، ولكن كان ذلك سببا لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه، فلا يحل له الإنكار على الأظهر؛ لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقا لا من زيد أو عمرو ، وذلك بأن يكون مثلا مع الإنسان شراب حلال نجس بسبب وقوع نجاسة فيه، وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر، أو شرب أولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال فلا معنى لإراقة ذلك ، ويحتمل أن يقال : إنه يريق ذلك ، فيكون هو مبطلا لمنكر ، وأما شرب الخمر فهو الملوم فيه ، والمحتسب غير قادر على منعه من ذلك المنكر ، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون ، وليس ببعيد فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم إلا بظن ، ولا يبعد أن يفرق بين درجات المنكر المغير والمنكر الذي تفضي إليه الحسبة والتغيير ؛ فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها وعلم أنه لو منعه من ذلك لذبح إنسانا وأكله، فلا معنى لهذه الحسبة، نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرفه يحمله على أخذ ماله فذلك له وجه فهذه دقائق واقعة في محل الاجتهاد ، وعلى المحتسب اتباع اجتهاده في ذلك كله، ولهذه الدقائق نقول: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة ، فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد ، فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي إذ ربما ينتدب لها من ليس أهلا لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدي ذلك إلى وجوه من الخلل ، وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك إن شاء الله فإن قيل : وحيث أطلقتم العلم بأن يصيبه مكروه أو أنه لا تفيد حسبته ، فلو كان بدل العلم ظن فما حكمه ؟ قلنا : الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم ؛ إذ يرجح العلم اليقيني على الظن ويفرق بين العلم والظن في مواضع أخر، وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه ، حيث علم قطعا أنه لا يفيد ، فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ، ولكن يحتمل أن يفيد ، وهو مع ذلك لا يتوقع مكروها ، فقد اختلفوا في وجوبه والأظهر وجوبه؛ إذ لا ضرر فيه وجدواه متوقعة .

التالي السابق


(الشرط الخامس: كونه قادرا) غير عاجز (ولا يخفى أن العاجر) عن الاحتساب (ليس عليه حسبة إلا بقلبه) ، وذلك أضعف المراتب؛ (إذ كل من أحب الله فيكره معاصيه وينكرها) على كل حال، (وقال ابن مسعود) رضي الله عنه (جاهدوا الكفار بأيديكم) إن استطعتم (فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا) والاكفهرار إظهار صورة الغضب في الوجه، (واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي الذي هو عدم القوة في الظاهر، بل يلتحق ما يخاف عليه مكروها يناله في الحال والمآل، فذلك في معنى العجز) ، ولو كان قويا (وكذلك إذا لم يخف مكروها) يناله، (ولكن علم أن إنكاره لا ينفع، فليلتفت إلى معنيين، أحدهما عدم إفادة الإنكار امتناعا، والآخر خوف مكروه يناله ويحصل من اعتبار المعنيين أربعة أحوال، أحدها أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه) ، ولا يؤثر فيهم (ويضرب) في الحال (إن تكلم فلا تجب عليه الحسبة) حينئذ، (بل ربما تحرم في بعض المواضع، نعم يلزمه ألا يحضر مواضع المنكر، ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد) ذلك المنكر، (ولا يخرج إلا لحاجة مهمة) ضرورية (أو) لأداء (واجب) كصلاة جمعة، (ولا تلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة) منها رأسا (إلا إذا كان يرهق إلى الفساد) في دينه (أو يحمل على [ ص: 26 ] مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات، فتلزمه الهجرة) حينئذ (إن قدر عليها؛ فإن الإكراه لا يكون عذرا في حق من يقدر على الهروب من الإكراه) ؛ فإن القادر على الهروب من الإلجاء إلى مكروه ساقط العذر .

(الثانية: أن ينتفي المعنيان بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله، ولا يقدر له على مكروه، فيجب عليه الإنكار) حينئذ، (وهذه هي القدرة المطلقة) عن القيود .

(الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، لكنه لا يخاف مكروها) يناله (فلا تجب الحسبة) في هذه الحالة (لعدم فائدتها، ولكن يستحب؛ لإظهار شعار الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين .

الرابعة عكس هذه، وهو أن يعلم أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله، كمن يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها، ويريق الخمر، أو يضرب العود) للغناء (الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال، ويتعطل عليه هذا المنكر، ولكنه يعلم) ، ويتحقق (أنه يرجع إليه فيضرب رأسه) أو جسده، (فهذا ليس بواجب، وليس بحرام، بل هو مستحب، ويدل عليه الخبر الذي أوردناه) آنفا (في قول كلمة حق عند إمام جائر) ، وأنه أفضل الصدقات (ولا يشك في أن ذلك مظنة الخوف) من الإتلاف، (ويدل عليه ما روي عن أبي سلمان الداراني) رحمه الله تعالى (أنه قال: سمعت من بعض الخلفاء) يعني من بني أمية (كلاما) فيه موضع الإنكار (فأردت أني أنكر) عليه ذلك، (وعلمت أني أقتل) إن تكلمت (ولكن في ملأ من الناس، فخشيت أن يعتريني التزين للخلق، فأقتل من غير إخلاص في الفعل) نقله صاحب القوت (فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) أي: الهلاك، وهذا الذي ذكرته إلقاء إلى الهلاك (قلنا: لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار يقاتل، وإن علم أنه يقتل، وهذا ربما يظن أنه مخالفة لموجب الآية، وليس كذلك، فقد قال ابن عباس ) رضي الله عنهما: (ليس التهلكة ذلك) وهو أن يرمي المجاهد نفسه في صف الكفار ويقاتل كما تظنون، (بل) المراد به (ترك النفقة في طاعة الله تعالى، أي: من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه) هكذا هو في سائر النسخ، وما أراه إلا تصحيفا؛ فإن المروي عن ابن عباس قال: ليس التهلكة أن يقاتل الرجل في سبيل الله، ولكن ترك النفقة في سبيل الله.

هكذا أخرجه الطبراني وابن جرير وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عنه، وروي مثله عن حذيفة بلفظ: ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله. أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر ، وأخرجه البخاري عنه، وقال: نزلت في النفقة .

وأخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت في النفقات في سبيل الله .

فقول المصنف: ترك النفقة؛ إما غلط من النساخ، أو تصحيف، فتأمل .

(وقال البراء بن عازب) الأنصاري رضي الله عنهما (هو أن يذنب) العبد (الذنب ثم يقول: لا يتاب علي) أي: لا تقبل توبتي. أخرجه الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والحاكم، وصحح بلفظ: هو الرجل يذنب الذنب، فيقول: لا يغفر الله لي .

وروي مثله عن النعمان بن بشير، أخرجه ابن مردويه وابن المنذر والطبراني والواحدي بسند صحيح، (وقال عبيدة) بن عمرو: والسلماني المرادي أبو عمرو الكوفي، تابعي كبير مخضرم فقيه ثبت، كان شريح إذا أشكل عليه شيء سأله، مات قبل السبعين، وهو بفتح العين المهملة وكسر الموحدة (هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيرا حتى يهلك) أخرجه ابن جرير عنه مرسلا (وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل، جاز أيضا ذلك في الحسبة) إذ كل منهما جهاد، (ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف، أو العاجز [ ص: 27 ] فذلك حرام، داخل تحت عموم آية التهلكة) ؛ فإنه ألقى بيده إلى هلاك نفسه، (وإنما جاز له الإقدام) على صفهم (إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل، أو علم أنه يكسر) بهجومه (قلب الكفار؛ لمشاهدتهم جراءته) ، وقوة قلبه، (واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة) بهم، (وحبهم للشهادة في سبيل الله) تعالى (فتنكسر به) شوكتهم، فيكون سببا لفشلهم ورعبهم، (فكذلك يجوز للمحتسب) أن يفعل مثله (بل يستحب) له (أن يعرض نفسه للضرر، أو القتل، إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر) من أصله، (أو كسر جاه الفاسق، أو تقوية قلوب أهل الدين، فأما إن رأى فاسقا متغلبا وحده وعنده سيف) أو خنجر أو سكين (وبيده قدح) خمر، (وعلم) منه (أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته) بالسيف، أو جرحه بالخنجر، أو السكين، (فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجها، وهو عين الهلاك؛ فإن المفهوم أن يؤثر في الدين أثرا يفديه بنفسه، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر) ظاهر، (فلا وجه له، بل ينبغي أن يكون حراما، وإنما يستحب إذا قدر على دفع المنكر أو ظهر لفعله فائدة) تعود على المسلمين، (وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه) أي: على نفسه، (فإن علم أنه يضرب معه من أصحابه، أو أقاربه، أو رفقائه) ممن ينتمي إليه بالمحبة (فلا يجوز له الحسبة، بل تحرم؛ لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي ذلك إلى منكر آخر، وليس ذلك من القدرة في شيء، بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر، ولكن كان ذلك سببا لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه، فلا يحل له الإنكار على الأظهر) من القولين؛ (لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقا، لا من زيد أو عمرو، وذلك بأن يكون مثلا مع الإنسان شراب حلال نجس بسبب وقوع نجاسة فيه، وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر، أو شرب أولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال) أي: احتياجهم إليه، (فلا معنى لإراقة ذلك، ويحتمل) في هذه الحالة (أن يقال: إنه يريق ذلك، فيكون هو مبطلا لمنكر، وأما شرب الآخر فهو الملوم فيه، والمحتسب غير قادر على منعه عن ذلك المنكر، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، وليس ببعيد) عن المدرك؛ (فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم إلا بظن، ولا يبعد أن يفرق بين درجات المنكر المغير والمنكر الذي تقضي إليه الحسبة والتغيير؛ فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها) ، وفي نسخة حتى يأكلها، (وعلم أنه لو منع منها لذبح إنسانا وأكله، فلا معنى لهذه الحسبة، نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرفه يحمله على أخذ ماله فذلك وجه) إذ هو أخف مما لو منعه لذبح إنسانا أو قطع طرفه، (فهذه دقائق) من المسائل (واقعة في محل الاجتهاد، وعلى المحتسب اتباع اجتهاده في ذلك كله، ولهذه الدقائق نقول للعامي: ينبغي ألا يحتسب إلا في الجليات المعلومة) أي: الواضحة من المناكير (كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة، فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد، فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي) لأمور المسلمين (إذ ربما ينتدب له من ليس أهلا له لقصور معرفته) في العلم (أو قصور ديانته فيؤدي إلى وجوه) شتى (من الخلل، وسيأتي [ ص: 28 ] كشف الغطاء عن ذلك) قريبا، (فإن قيل: وحيث أطلقتم العلم) وفي نسخة: القول (بأن يصيبه مكروه) من حسبته (أو أنه لا تفيد حسبته، فلو كان بدل العلم ظن فما حكمه؟ قلنا: الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم) وفي حكمه، (وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم؛ إذ يرجح العلم اليقيني على الظن) عند التعارض، (ويفرق بين العلم والظن في موضع آخر، وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه، حيث علم قطعا أنه لا يفيد، فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد، ولكن يحتمل أن يفيد، وهو مع ذلك لا يتوقع مكروها، فقد اختلفوا في وجوبه) ، فقيل: لا يجب. وقيل: يجب (والأظهر) من القولين (وجوبه؛ إذ لا ضرر فيه، وجدواه متوقع) أي: نفعه؛ لوجود الاحتمال .




الخدمات العلمية