الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
تأثير السماع في القلب محسوس .

ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية ، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم ، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة .

ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته .

ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص ، واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب .

قال أبو سليمان السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه ولكن يحرك ما هو فيه فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار في القلب وهي سبعة مواضع : .

الأول : غناء الحجيج فإنهم أولا يدورون في البلاد بالطبل والشاهين والغناء وذلك مباح لأنها أشعار نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ووصف البادية وغيرها وأثر ذلك ، يهيج الشوق إلى حج بيت الله تعالى واشتعال نيرانه إن كان ثم شوق حاصل أو استثارة الشوق واجتلابه إن لم يكن حاصلا .

وإذا كان الحج قربة والشوق إليه محمودا كان التشويق إليه بكل ما يشوق محمودا .

وكما يجوز للواعظ أن ينظم كلامه في الوعظ ويزينه بالسجع ويشوق الناس إلى الحج بوصف البيت والمشاعر ووصف الثواب عليه جاز لغيره ذلك على نظم الشعر ، فإن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات موزونة زاد وقعه فإن أضيف إليه الطبل والشاهين وحركات الإيقاع زاد التأثير .

وكل ذلك جائز ما لم يدخل فيه المزامير والأوتار التي هي من شعار الأشرار نعم إن قصد به تشويق من لا يجوز له الخروج إلى الحج كالذي أسقط الفرض عن نفسه ولم يأذن له أبواه في الخروج فهذا يحرم عليه الخروج .

فيحرم تشويقه إلى الحج بالسماع بكل كلام يشوق إلى الخروج ، فإن التشويق إلى الحرام حرام .

وكذلك إن كانت الطريق غير آمنة وكان الهلاك غالبا لم يجز تحريك القلوب ومعالجتها بالتشويق .

الثاني : ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو .

وذلك أيضا مباح كما للحاج ولكن ينبغي أن تخالف أشعارهم وطرق ألحانهم أشعار الحاج وطرق ألحانهم لأن استثارة داعية الغزو بالتشجيع وتحريك الغيظ والغضب فيه على الكفار وتحسين الشجاعة واستحقار النفس والمال بالإضافة إليه بالأشعار المشجعة .

مثل قول المتنبي .


فإن لا تمت تحت السيوف مكرما تمت وتقاس الذل غير مكرم

وقوله أيضا: .


يرى الجبناء أن الجبن حزم     وتلك خديعة الطبع اللئيم

وأمثال ذلك .

وطرق الأوزان المشجعة تخالف الطرق المشوقة .

وهذا ، أيضا مباح في وقت يباح فيه الغزو .

ومندوب إليه وقت يستحب فيه الغزو ، ولكن في حق من يجوز له الخروج إلى الغزو .

الثالث : الرجزيات التي يستعملها الشجعان في وقت اللقاء والغرض منها التشجيع للنفس وللأنصار وتحريك النشاط فيهم للقتال وفيه التمدح بالشجاعة والنجدة وذلك إذا كان بلفظ رشيق وصوت طيب كان أوقع في النفس وذلك مباح في كل قتال مباح ومندوب في قتال مندوب ومحظور في قتال المسلمين وأهل الذمة .

وكل قتال محظور ; لأن تحريك الدواعي إلى المحظور محظور .

وذلك منقول عن شجعان الصحابة رضي الله عنهم كعلي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما .

ولذلك نقول : ينبغي أن يمنع من الضرب بالشاهين في معسكر الغزاة ، فإن صوته مرقق محزن يحلل عقدة الشجاعة ويضعف صرامة النفس ويشوق إلى الأهل والوطن ويورث الفتور في القتال وكذا سائر الأصوات والألحان المرققة للقلب ، فالألحان المرققة المحزنة تباين الألحان المحركة المشجعة ، فمن فعل ذلك على قصد تغيير القلوب وتفتير الآراء عن القتال الواجب فهو عاص ومن فعله على قصد التفتير عن القتال المحظور فهو بذلك مطيع .

الرابع : أصوات النياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج الحزن والبكاء وملازمة الكآبة والحزن قسمان : محمود ومذموم .

فأما المذموم فكالحزن على ما فات قال الله تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، والحزن على الأموات من هذا القبيل ، فإنه تسخط لقضاء الله تعالى وتأسف على ما لا تدارك له .

فهذا الحزن لما كان مذموما كان تحريكه بالنياحة مذموما ، فلذلك ورد النهي الصريح عن النياحة .

وأما الحزن المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه .

والبكاء والتباكي .

والحزن والتحازن على ذلك محمود وعليه بكاء آدم عليه السلام .

وتحريك هذا الحزن وتقويته محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك ولذلك كانت نياحة داود عليه السلام محمودة إذ كان ذلك مع دوام الحزن وطول البكاء بسبب الخطايا والذنوب فقد كان عليه السلام يبكي ويبكي ويحزن حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته .

وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه وذلك محمود ; لأن المفضي إلى المحمود محمود .

وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرققة للقلب ولا أن يبكي ويتباكى ليتوصل به إلى تبكية غيره وإثارة حزنه .

التالي السابق


(فإذا تأثير السماع في القلوب محسوس) ومشاهد (ومن لم يحركه السماع فهو ناقص) الخلقة (مائل عن الاعتدال) الأصلي (بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على سائر البهائم، فإن جميعها يتأثر بالنغمات الموزونة) كما عرفت في الجمال، (ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود -عليه السلام- لاستماع صوته) عند قراءة الزبور كما ذكر القشيري في الرسالة، (ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلوب لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص، واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب) ، فالمنكر له من غير تفصيل إما مغتر بما أتيح له من أعمال الأخيار، وإما جامد الطبع لا ذوق له فيصر على الإنكار، (قال سليمان) الداراني -رحمه الله تعالى-: (السماع لا يحصل في القلب ما ليس فيه لكن يحرك ما فيه) أي: لا يحدث في القلب شيئا، وإنما يحرك ما في القلب فمن كان يتعلق قلبه بغير الله يحركه السماع فيجد بالهوى، ومن يتعلق باطنه بمحبة الله يجد بالإرادة إرادة القلب، ولفظ الرسالة: قال أبو سليمان: إن الصوت الحسن لا يدخل في القلب شيئا وإنما يحرك من القلب ما فيه. قال ابن أبي الحواري: صدق والله أبو سليمان. اهـ. وسبق تفصيله في كلام صاحب العوارف، ونقضه القرطبي فقال: لا نسلم أن السماع يحرك ما غلب على قلبه، وأنه يزيد حالا إلى حاله ووجدا إلى وجده، فإن الغناء المطرب من حيث هو كذلك لا يستخرج من القلب خيرا، ولا يكون فيه خير، وإنما ينبت النفاق في القلب كما في الخبر، ولئن سلمنا أنه يستخرج من القلب فلا يسلم أن كل ما كان مباحا بدليل الخمر فإنها تظهر ما في قلب الشارب لها، وهي مع ذلك محرمة، ثم نقول: إن الذي يجده أرباب القلوب عند السماع لا يتوقف على الأصوات الطيبة الموزونة والنغمات المقطعة بل ذلك فتح من الحق وهبات لا يتوصل إليها بشيء من المحرمات ولا المكروهات، وقد قيل: الطرب يسمع من صرير الباب وصوت الذباب. اهـ. والجواب عن هذا ظاهر، (فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة يعتاد في مواضيع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار في القلب) وبه يحصل التغير للعبد من حال إلى حال، (وهي سبعة مواضع: الأول: غناء الحجيج فإنهم يدورون أولا في البلاد) [ ص: 487 ] قبل دخول الوقت (بالطبل والمشاهين والغناء) بالأشعار الطيبة والألحان الموزونة بالإيقاع، (وذلك مباح) لا ينكره أحد من أهل الدين؛ (لأنها) تجري مجرى الحداء والإنشاد إذ هي (أشعار نظمت) وفي نسخة: تنظم (في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر) المحترمة، (ووصف البادية وغيرها، وتأثيرها يهيج الشوق إلى حج بيت الله الحرام واشتعال نيرانه إن كان ثم) أي: هناك (شوق حاصل) في نفسه (أو استثارة الشوق واجتلابه إن لم يكن حاصلا) من قبل .

(وإذا كان الحج قربة) من القرب (والشوق إليه محمود) شرعا فالتشويق إليه بكل ما يتشوق محمود إلا إنه بحد محدود، ومتى خالطه ما يخالف الشرع فإنكاره حتم على ذوي الدين، وذلك مثل مخالطة الرجال والنساء وما أشبهه، فموقع الإنكار هو هذا القدر المحرم، وبهذا قطع الحافظ ابن حجر حين سئل عن إدارة المحمل في وسط مصر وما ينجر إليها من المفاسد ورفع أمر ذلك إلى سلطان العصر، فأفتى العلماء بالمنع مطلقا إلا الحافظ ابن حجر، ووقع لذلك إجلاس بين يدي السلطان وتفاوضوا فقال الحافظ: إدارة المحمل إشعار بالحج، وإن الطريق آمن فمن شاء أن يحج فليتأهب، وفيه تشويق إلى الغربة فلا يمنع، وإنما يمنع ما يقع فيه من المفاسد والمحرمات، وتم الأمر على ذلك، (وكما يجوز للواعظ) على العامة (أن ينظم كلامه في الوعظ ويزينه بالسجع) بأن يكون متناسب الطرفين (ويشوق الناس) بذلك (إلى الحج) والزيارة، وذلك (بوصف البيت) السعيد (والمشاعر) الحرمية، (ووصف الثواب عليه) لمن قصده (جاز لغيره ذلك على نظم الشعر، فإن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب) وأكثر تأثيرا فيه، (فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات طيبة موزونة زاد وقعه) وتأثيره في القلب، (فإن أضيف إليه الطبل والشاهين وحركات الإيقاع زاد التأثير) في القلب، (كل ذلك جائز) مباح (ما لم يدخل فيه المزامير والأوتار التي هي شعار الأشرار) وعوائد الفجار، فإنه حينئذ يجب إزالة ما عرضه ويبقى الصوت والطبل على إباحته (نعم إن قصد به تشويق من لا يجوز له الخروج إلى الحج كالذي أسقط الفرض عن نفسه ولم يأذن له أبواه في الخروج فهذا يحرم عليه الخروج) ولو خرج كان عاصيا، (فيحرم) لذلك (تشويقه إلى الخروج بالسماع بكل كلام مشوق إلى الخروج، فإن التشويق إلى الحرام حرام) فينبغي للوعاظ أن ينبهوا على ذلك، وأن يفصلوا، ومع ذلك فما يمنع من وعظه، فإن الذي يخرج على الوصف المذكور عن أن يكون قد قضى فريضة الإسلام بالنسبة إلى من لم يقض بعد قليل وأقل من خالف أبويه، والقليل لا حكم له، (وكذلك إذا كانت الطرق غير آمنة) من فساد الأعراب، (وكان هلاك غالبا) بأخبار السيارة (لم يجز تحريك القلوب ومعالجتها بالتشويق) ، فإنه يفضي إلى الإهلاك، (الثاني: ما يعتاده الغزاة) في سبيل الله (بتحريض الناس على الغزو) في أسجاعهم المشجعة عليه، (وذلك أيضا مباح) لا ينكره أحد (كما للحاج ولكن ينبغي أن يخالف أشعارهم وطرق ألحانهم) ونغماتهم (طرق أشعار الحاج وطرق ألحانهم) ونغماتهم (لأن استثارة داعية الغزو) إنما هو (بالتشجيع) لقلب جبان (وتحريك الغيظ والغضب على الكفار) عند انتهاك حرمة من حرمات الله تعالى (وتحسين الشجاعة) وتقبيح الجبن (واستحقار النفس والمال بالإضافة إليه بالأشعار المشجعة مثل قول) أبي الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الشاعر (المتنبي) في قصيدته:


فما لا تمت تحت السيوف مكرما تمت وتقاسي الذل غير مكرم

ومثل (قوله) وقد كبست أنطاكية فقتل المهر وأمه كانت تدعى الجهامة في قصيدة:

(يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة النفس اللئيم)

كذا في النسخ، والموجود في ديوانه "العجز" بدل "الجبن" "والطبع" بدل "النفس"، ومن هذه القصيدة [ ص: 488 ]

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه على قدر القرائح والعلوم

وله مثل ذلك من قصيدة أخرى:


عش عزيزا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
فرءوس الرماح أذهب للغيـ ـظ وأشفى لغل صدر الحقود
لا كما قد حييت غير حميد فإذا مت مت غير فقيد
فاطلب العز في لظى وذر الذ ل ولو كان في جنان الخلود
يقتل العاجز الجبان وقد يـ ـعجز عن قطع بخنق المولود



أي: العاجز كل العجز قد يقتل، فالعجز والجبن ليسا من أسباب البقاء، (ومثال ذلك، وطرق الأوزان المشجعة تخالف طرق) أوزان (المشوقة، فهذا أيضا مباح في وقت يباح فيه الغزو، ولكن في حق من يجوز له الخروج إلى الغزو) ، ومن لا فلا. (الثالث: الرجزيات التي يستعملها الشجعان في وقت اللقاء) مع الأعداء، (والغرض منها التشجيع للنفس) والتحريض (وللأنصار) والأعوان (وتحريك النشاط فيه قتال) ليستعدوا في ملاقاة العدو بانشراح الصدر، (وفيه التمدح بالشجاعة والنجدة) وقوة القلب، (وذلك إذا كان بلفظ رشيق) أي: خفيف (وصوت طيب كان أوقع في النفس) وأكثر تأثيرا فيه، (وذلك مباح في كل قتال مباح ومندوب إليه ومحظور في قتال المسلمين وأهل الذمة) من الكفار، (وكل قتال محظور شرعا; لأن تحريك الدواعي إلى المحظور محظور وذلك منقول عن شجعان الصحابة) في حروبهم مع المشركين (كعلي) بن أبي طالب (وخالد) بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي سيف الله يكنى أبا سليمان، وكان أميرا على قتال أهل الردة وغيرها من الفتوح (-رضي الله عنهما- وغيرهما) من الصحابة ممن وجه إلى حروب الكفار، وكما هو معروف من سيرهم ومذكور في كتب المغازي، (ولذلك نقول: ينبغي أن يمنع الضرب بالشاهين في معسكر الغزاة، فإن صوته مرقق محزن يحل عقدة الشجاعة ويضعف صرامة النفس) وشهامتها، (ويشوق إلى الأهل والوطن ويورث الفتور في القتال) لخاصية فيه، (وكذا سائر الأصوات والألحان المرققة للقلب، فالألحان المرققة المحزنة تباين الألحان المحركة المشجعة، فمن فعل ذلك على قصد تغيير القلوب وتغيير الآراء عن القتال المندوب) إليه (فهو عاص لله) تعالى، (ومن فعل ذلك على قصد التفتير عن القتال المحظور فهو به مطيع) لله تعالى .

(الرابع: أصوات النياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج الحزن والبكاء وملازمة الكآبة) والغم، (والحزن قسمان: محمود ومذموم، فأما المذموم فكالحزن على ما فات) من الأموال (قال الله -عز وجل-) : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا أي: تحزنوا ( على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والحزن على الأموات من هذا القبيل، فإنه سخط لقضاء الله -عز وجل- وتأسف على ما لا تدارك فيه) وفي نسخة: له، (فهذا الحزن لما كان مذموما كان تحريكه بالنياحة مذموما، فلذلك ورد النهي الصريح في النياحة) ، رواه البخاري ومسلم من حديث أم عطية: أخذ علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في البيعة أن لا ننوح.

وروى أبو داود بلفظ: نهى عن النياحة، وفي حديث معاوية: نهى عن النوح والشعر والتصاوير وجلود السباع والتبرج والغناء [ ص: 489 ] والذهب والخز والحرير، وعند البيهقي من حديث ابن عمر: أن الميت ليعذب بما نيح عليه.

وفي الذريعة للراغب: قال بعض الحكماء: أسباب الحزن فقد محبوب أو فوت مطلوب، ولا يسلم الإنسان; لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد، واعلم أن الجزع على ما فات لا يلم ما تشعث ولا يرم ما انتكث، وأما غمه على المستقبل فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما في شيء ممتنع كونه فليس ذلك من شأن العاقل، فكذلك إن كان من قبيل الواجب كونه كالموت الذي هو حتم في رقاب العباد، وإن كان ممكنا كونه، فإن كان في الممكن الذي لا سبيل إلى دفعه كإمكان الموت قبل الهرم، فالحزن له جهل واستجلاب غم إلى غم، وإن كان من الممكن الذي يصح دفاعه فالوجه أن يحتال لدفاعه بعقل غير مشوب بحزن، فمن علم أن ما جرى من حكمه وسبق في علمه لا سبيل إلى أن يكون هانت عليه النوب .

(وأما الحزن المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه، والبكاء) حقيقة (والتباكي) تكلفا (و) كذا (الحزن والتحازن على ذلك محمود) شرعا (وعليه بكى آدم -عليه السلام-) لما هبط إلى الأرض على خطيئته (وتحريك هذا الحزن وتقويته محمود لأنه يبعث على التشمر) والاجتهاد (على التدارك) لملاقاته، (ولذلك كانت نياحة داود -عليه السلام- محمودة إذ كان ذلك مع دوام الحزن وطول البكاء بسبب الخطايا والذنوب) بالإضافة إلى مقامه، (فقد كان يحزن) في فواته (ويحزن غيره ويبكي ويبكي) غيره (حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته) نقل ذلك القشيري في الرسالة وتقدم قريبا، (وكان يعمل ذلك بألفاظه وألحانه وذلك محمود; لأن المفضي إلى المحمود محمود ومن هذا لا يحرم على الواعظ الطيب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرققة للقلب وأن يبكي ويتباكى ليتوصل به إلى تبكية غيره وإثارة حزنه) وكان سبط بن الجوزي ربما طلع على المنبر فيغلب عليه البكاء قبل أن يشرع في الوعظ، فيبكي الناس لبكائه وينزل عن المنبر ولم يقل شيئا .




الخدمات العلمية