الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد ذكرنا في كتاب العزلة فوائد المخالطة ، والسفر مخالطة مع زيادة اشتغال واحتمال مشاق .

وأما آيات الله في أرضه ففي مشاهدتها فوائد للمستبصر ففيها قطع متجاورات وفيها الجبال والبراري والبحار وأنواع الحيوان والنبات وما من شيء منها إلا وهو شاهد لله بالوحدانية ومسبح له بلسان ذلق لا يدركه إلا من ألقى السمع وهو شهيد .

وأما الجاحدون والغافلون والمغترون بلامع السراب من زهرة الدنيا فإنهم لا يبصرون ولا يسمعون لأنهم عن السمع معزولون ، وعن آيات ربهم محجوبون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون وما أريد بالسمع السمع الظاهر فإن الذين أريدوا به ما كانوا معزولين عنه وإنما أريد به السمع الباطن ولا يدرك بالسمع الظاهر إلا الأصوات .

ويشارك الإنسان فيه سائر الحيوانات .

فأما السمع الباطن فيدرك به لسان الحال الذي هو نطق وراء نطق المقال يشبه قول القائل حكاية لكلام الوتد والحائط قال الجدار للوتد : لم تشقني ? فقال : سل من يدقني ولم يتركني وراء الحجر الذي ورائي .

وما من ذرة في السماوات والأرض إلا ولها أنواع شاهدات لله تعالى بالوحدانية هي توحيدها وأنواع شاهدات لصانعها بالتقدس هي تسبيحها ولكن لا يفقهون تسبيحها ; لأنهم لم يسافروا من مضيق سمع الظاهر إلى فضاء سمع الباطن ومن ركاكة لسان المقال إلى فصاحة لسان الحال ولو قدر كل عاجز على مثل هذا السير لما كان سليمان عليه السلام مختصا بفهم منطق الطير ولما كان موسى عليه السلام مختصا بسماع كلام الله تعالى الذي يجب تقديسه عن مشابهة الحروف والأصوات .

التالي السابق


(وقد ذكرنا في كتاب العزلة فوائد المخالطة، والسفر مخالطة مع زيادة اشتغال واحتمال مشاق، وأما آيات الله في أرضه) الدالة على كمال قدرته (ففي مشاهدتها) بعين البصر (فوائد للمستبصرين) أي: المتأملين (ففيها قطع متجاورات) كما قال الله تعالى وفي الأرض قطع متجاورات (وفيها الجبال) الشوامخ التي جعلها الله أوتادا في الأرض (وفيها البراري) والقفار (وفيها البحار) العذبة والملحة، (وفيها أنواع الحيوان و) أصناف (النبات) ذو ألوان، (وما من شيء منها إلا وهو شاهد لله تعالى بالوحدانية) قال القائل:


ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد



(و) ما من شيء منها إلا وهو (مسبح له بلسان ذلق) أي: فصيح (لا يدركه إلا من ألقى) له (السمع) الباطن (وهو شهيد) بقلبه حاضر بلبه، (وأما الجاحدون) أي: المنكرون (والغافلون) عن الحقائق (والمغترون بلامع السراب من زهرة الدنيا) أي: متاعها (فإنهم لا يبصرون ولا يسمعون) لحجب أبصارهم وأسماعهم عن درك ذلك؛ (لأنهم عن السمع معزولون، وعن آيات ربهم محجوبون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، وما أريد بالسمع) هنا (السمع الظاهر) الذي هو عبارة عن قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ به تدرك الأصوات .

(فإن الذين أريدوا به) في الآية (ما كانوا معزولين عنه وإنما أريد به السمع الباطن ولا يدرك بالسمع الظاهر إلا الأصوات) بطريق وصول الهواء بكيفية الصوت إلى الصماخ، (ويشارك الإنسان فيه سائر الحيوانات) ، فإنها كذلك تدرك به الأصوات بالوجه المذكور، (فأما السمع الباطن فيدرك به لسان الحال الذي هو وراء نطق المقال يشبه قول القائل حكاية لكلام الوتد والحائط) ومراجعتهما (قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ فقال: سل من يدقني ولم يتركني وراء الحجر الذي ورائي) ومن ذلك حكاية لسان حال الحوض:


امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني



(وما من ذرة في السماوات والأرض إلا ولها أنواع شهادات لله تعالى بالوحدانية هو توحيدها) وفي نسخة: هي أمر من السر به النزول إلى توحيدها، (وأنواع شهادات لصانعها بالتقديس هي تسبيحها ولكن لا يفقهون تسبيحها; لأنهم لم يسافروا من مضيق سمع الظاهر إلى فضاء سمع الباطن و) لم يتجاوزوا (من ركاكة لسان المقال إلى فصاحة لسان الحال) فهم قاصرون عن وصول هذا المقام، (ولو قدر كل عاجز) بنفسه قاصر على مقامه (على مثل هذا السير لما كان سليمان -عليه السلام- مختصا بفهم منطق الطير) من دون أقرانه الكرام، (ولما كان موسى -عليه السلام- مختصا بسمع كلام الله تعالى الذي يجب تقديسه عن مشابهة الحروف والأصوات) قال المصنف في كتاب المعارف العقلية: اعلم أن العقل الكلي أثر من آثار كلام الباري، والنطق أثر من العقل الكلي، فإذا النطق ليس هو صورة العبارة ولا نفس العبارة ولا شكل [ ص: 387 ] الحروف ولا تقطع الأصوات، بل النطق هو تمكن النفس الإنسانية من العبارة عن الصور المجردة المتقررة في علمه المنفردة في عقله المبراة عن الأشكال المعراة عن الأجسام، والمثال فيه تتصور حقائق الأشياء بأعيانها وذواتها المجردة في مرآة القلب، وتقدر النفس من العبارة عنها، ويتمكن الذهن من التفكير فيها، ويحيط العقل بظاهرها وباطنها، ولذلك سميت النفس ناطقة، يقال: كذلك للرجل ناطق ولو لم يتكلم في العيان ولو لم يقل باللسان، وحقيقة ذلك تتعين في القرآن حيث قال: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وليس الكتاب له العبارة ولا عنده الإشارة لكن لما تضمن جميع الأشياء وأحاط على المكتوبات واشتمل على لطائف الموجودات وكشائفها، فبهذا المعنى سمى الله كتابه ناطقا ليعلم العاقل أن الناطق من الإنسان هو من تكون نفسه مناسبة لكتاب الله تعالى ومقصودة لمضمونات كلماته، ومن لم يعرف حقيقة ما قلنا فهو أبكم وإن كان قائلا، ومن لم يدركه فهو أصم وإن كان سميعا، ومن لم يره بعين بصيرته فهو أعمى وإن كان ناظرا، فمن انسلخ عن جلدة الهوى والطبيعة انسلاخ الحية وتدرع بدرع الشريعة ينشرح صدره بنور الإيمان ويحترق قلبه بنار الوحدانية ويكمل نظره الحسي ويحتد نظره العقلي ولا يخفى عليه شيء من أسرار الملكوت وروضة الجبروت، فهو قاعد بشخصه بين أبناء جنسه وقلبه كالطير فهو في الهواء يصعد إلى مرقاة الكرم ويتغذى بلطائف أسرار الحكم فيسمع قلبه النغمات الفلكية ويتلذذ بالترنمات الملكية، ويفهم أصوات الطير كما قال الله تعالى إخبارا عن نبيه سليمان -عليه السلام- علمنا منطق الطير فإذا النطق أشرف الأحوال وأجل الأوصاف وماهية تصور النفس صور المعلومات وقدرة النفس على الإسماع لغيرها بما ينتج في العقل بأي لغة كانت وبأي عبارة اتفقت .




الخدمات العلمية