الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فهذه آفات قد نبهنا عليها في كتاب العلم والحزم الاحتراز بالعزلة وترك الاستكثار من الأصحاب ما أمكن بل الذي يطلب الدنيا بتدريسه وتعليمه فالصواب له إن كان غافلا في مثل هذا الزمان أن يتركه .

فلقد صدق أبو سليمان الخطابي حيث قال دع الراغبين في صحبتك والتعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال إخوان العلانية أعداء السر إذا لقوك تملقوك وإذا غبت عنهم سلقوك من أتاك منهم كان عليك رقيبا وإذا خرج كان عليك خطيبا أهل نفاق ونميمة وغل وخديعة فلا تغتر باجتماعهم عليك فما غرضهم العلم بل الجاه والمال وأن يتخذوك سلما إلى أوطارهم وأغراضهم وحمارا في حاجاتهم إن قصرت في غرض من أغراضهم كانوا أشد أعدائك ثم يعدون ترددهم إليك دالة عليك ويرونه حقا واجبا لديك ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لهم سفيها وقد كنت فقيها وتكون لهم تابعا خسيسا بعد أن كنت متبوعا رئيسا. .

ولذلك قيل : اعتزال العامة مروءة تامة .

فهذا معنى كلامه وإن خالف بعض ألفاظه وهو حق وصدق .

فإنك ترى المدرسين في رق دائم وتحت حق لازم ومنة ثقيلة ممن يتردد إليهم فكأنه يهدي تحفة إليهم ويرى حقه واجبا عليهم .

وربما لا يختلف إليه ما لم يتكفل برزق له على الإدرار .

ثم إن المدرس المسكين قد يعجز عن القيام بذلك من ماله فلا يزال مترددا إلى أبواب السلاطين ويقاسي الذل والشدائد مقاساة الذليل المهين حتى يكتب له على بعض وجوه السحت مال حرام ثم لا يزال العامل يسترقه ويستخدمه ويمتهنه ويستذله إلى أن يسلم إليه ما يقدره نعمة مستأنفة من عنده عليه ثم يبقى في مقاساة القسمة على أصحابه إن سوى بينهم مقته المميزون ونسبوه إلى الحمق وقلة التمييز والقصور عن درك مصارفات الفضل والقيام بمقادير الحقوق بالعدل وإن فاوت بينهم سلقه السفهاء بألسن حداد وثاروا عليه ثوران الأساود والآساد فلا يزال في مقاساتهم في الدنيا وفي مطالبة ما يأخذه ويفرقه عليهم في العقبى .

والعجب أنه مع هذا البلاء كله يمني نفسه بالأباطيل ويدليها بحبل الغرور ويقول لها لا تفتري عن صنيعك فإنما أنت بما تفعلينه مريدة وجه الله تعالى ، ومذيعة شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشرة علم دين الله وقائمة بكفاية طلاب العلم من عباد الله وأموال السلاطين لا مالك لها وهي مرصدة للمصالح وأي مصلحة أكبر من تكثير أهل العلم فبهم يظهر الدين ويتقوى أهله .

ولو لم يكن ضحكة للشيطان لعلم بأدنى تأمل أن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال والحرام فتلحظهم أعين الجهال ويستجرئون على المعاصي باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء لآثارهم .

ولذلك قيل : ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء .

فنعوذ بالله من الغرور والعمى فإنه الداء الذي ليس له دواء .

التالي السابق


(وهذه آفات قد نبهنا عليها في كتاب العلم) وذكرنا الوجود والدواعي وكيف التخلص منها (والحزم) كل الحزم (الاحتراز) [ ص: 365 ] عنها (بالعزلة وترك الإكثار من الأصحاب ما أمكن) وقدر عليه (بل الذي يطلب الدنيا بتدريسه وتعليمه) ووعظه وتذكيره (فالصواب له إن كان عاقلا في هذا الزمان أن يترك ذلك) ليسلم حاله (فلقد صدق أبو سليمان) أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب (الخطابي) البستي نسب إلى جده، إمام فقيه محدث وله غريب الحديث ومعالم السنن وغيرهما، توفي سنة 388 (حيث قال) في كتاب له سماه العزلة: (دع الراغبين في صحبتك والتعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال) هو (إخوان العلانية) أي: يدعون الأخوة في الظاهر (أعداء السر) أي: يسرون العداوة في الباطن (إذا لقوك) في مجلس (تملقوك) أي: تملقوا لك بأن أظهروا لك الحب والإخلاص (وإذا غبت عنهم سلقوك) بألسنتهم وفي نسخة: سبوك أي: آذوك (ومن آتاك منهم كان عليك رقيبا) أي: مراقبا لهناتك حافظا سيئاتك (وإذا خرج كان عليك خطيبا) يخبر الناس بعيوبك ويفصح لهم بلسانه (أهل نفاق ونميمة وغل وخديعة فلا تغتر باجتماعهم عليك فما غرضهم العلم بل) تحصيل (الجاه والمال) منك (وأن يتخذوك سلما) أي: واسطة يرقون بها (إلى قضاء أوطارهم) وأغراضهم خصمائك (ثم) بعد ذلك (يعدون ترددهم إليك دالة عليك) أي: منه ودلالا (ويرونه حتما واجبا لديك ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتكون لهم تابعا خسيسا بعد أن كنت متبوعا رئيسا .

ولذلك قيل: اعتزال العامة مروءة تامة فهذا معنى كلامه) الذي ساقه (وإن خالف بعض ألفاظه) فإنه زاد في العبارة جملا لم يذكرها المصنف اختصارا (وهو حق وصدق فإنك ترى المدرسين) أبدا (في رق) أي: أسر (دائم وتحت حق لازم ومنه ثقيلة ممن إليهم فكأنه يهدي) تردده (تحفة إليهم فيرى) بذلك التردد (حقا واجبا عليهم وربما لا يختلف) المتردد (إليه ما لم يتكفل برزق له على) سبيل (الإدرار) والتوظيف والقيام بمهماته (ثم إن المدرس المسكين قد يعجز عن القيام بذلك من ماله) لعدم ماله (فلا يزال يتردد على أبواب السلاطين) ومن دونهم الأمراء والتجار (ويقاسي الذل والشدائد) وأنواع المشقات (مقاساة المهين الذليل) المستقل (حتى يكتب له على بعض وجوه السحت مال حرام) يكون كالإدرار عليه يأخذه كل يوم أو جمعة أو شهر أو سنة بحسب اصطلاح كل وقت (ثم لا يزال العامل) من طرف السلطان (يسترقه ويستخدمه ويمتهنه ويستذله) بكثرة التردد إليه في الذي أعطاه .

(ثم يبقى) ذلك المدرس المسكين (في مقاساة القسمة على أصحابه إن ساوى بينهم مقته المبرزون) من تلامذته الذين لهم سابقة حضور عنده (ونسبوه إلى الحق وقلة التمييز والقصور عن درك مصارفات الفضل والقيام في مقادير الحقوق بالعدل) والتسوية (وإن فاوت بينهم بالعطاء) بأن أعطى بعضا كثيرا ورعاه وأعطى بعضا منهم قليلا (سلقه السفهاء) منهم (بألسنة حداد وثاروا عليه ثوران الأساود) أي: الحيات (والآساد) جمع أسد .

(فلا يزال في مقاساتهم في الدنيا وفي مظالم ما يأخذه ويفرقه) عليهم (في العقبى) فإن حرامها عقاب وحلالها حساب (والعجب أنه مع هذا البلاء كله يمني نفسه بالأباطيل) والظنون الكواذب (ويدليها بحبل الغرور) وفي نسخة: تمنيه نفسه بالأباطيل وتدليه بحبل الغرور (ويقول لها [ ص: 366 ] لا تفتري) أي: لا تكسلي، وفي نسخة: وتقول له: لا تفتر (عن صنيعك) الذي أنت فيه (فإنما أنت بما تفعلينه مريدة وجه الله تعالى، ومذيعة شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وناشرة علم دين الله) أي: رايته (وقائمة بكفاية طلاب العلم من عباد الله) وفي نسخة: فإنما أنت بما تفعله مريد ومذيع وناشر، وقائم كل ذلك بتذكير الضمير على أن الخطاب من النفس له وعلى نسخة الخطاب منه إلى النفس فلذا أنت في الجميع، ثم يقول (وأموال السلاطين لا مالك لها وهي مرصدة للمصالح وأي مصلحة أكبر من تكثير أهل العلم) وتوسيع سوادهم (فيهم يظهر الدين ويتقوى أهله ولو لم يكن ضحكة للشيطان لعلم بأدنى تأمل أن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون) من غير بحث عن أصله (ولا يميزون بين الحلال والحرام فتخلطهم أعين الجهال) والعامة يستجرئون على المعاصي أي: ارتكابها (باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء بآثارهم) فإذا منعوا لم يمتنعوا واحتجوا بهؤلاء المقتدى بهم وقالوا: لنا أسوة، ويكفي بنا أن نكون في العمل مثلهم (ولذلك قيل: ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء) فإذا فسدت الرعية أصلحتها الملوك بعدلها وإذا فسدت الملوك أصلحتها العلماء بالوعظ والنصيحة وإراءة طرق الخير، فإذا فسدت العلماء فسد الكل. وفي ذلك قيل: أيش يصلح الملح إذا الملح فسد .

(فنعوذ بالله من الغرور) الشيطاني (والعمى) الباطني (فإنه الداء) العضال (الذي ليس له دواء) .




الخدمات العلمية