الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الفائدة الخامسة .

أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عن الناس .

فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد ، فإن رضا الناس غاية لا تدرك ، فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى ومن أهون الحقوق وأيسرها حضور الجنازة وعيادة المريض وحضور الولائم والإملاكات وفيها تضييع الأوقات وتعرض للآفات ثم قد تعوق عن بعضها العوائق وتستقبل فيها المعاذير ولا يمكن إظهار كل الأعذار فيقولون له قمت بحق فلان وقصرت في حقنا ويصير ذلك سبب عداوة فقد قيل : من لم يعد مريضا في وقت العيادة اشتهى موته خيفة من تخجيله إذا صح على تقصيره .

ومن عمم الناس كلهم بالحرمان رضوا عنه كلهم ولو خصص استوحشوا .

وتعميمهم بجميع الحقوق لا يقدر عليه المتجرد له طول الليل والنهار فكيف من له مهم يشغله في دين أو دنيا قال ، عمرو بن العاص كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء .

وقال ابن الرومي .


عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب     فإن الداء أكثر ما تراه
يكون من الطعام أو الشراب

وقال الشافعي رحمه الله : أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام .

وأما انقطاع طمعك عنهم فهو أيضا فائدة جزيلة فإن من نظر إلى زهرة الدنيا وزينتها تحرك حرصه وانبعث بقوة الحرص طمعه ولا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال فيتأذى بذلك .

ومهما اعتزل لم يشاهد وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ولذلك قال الله تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم وقال صلى الله عليه وسلم : انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم .

وقال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء فلم أزل مغموما كنت أرى ثوبا أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت .

وحكي أن المزني رحمه الله خرج من باب جامع الفسطاط وقد أقبل ابن عبد الحكم في موكبه فبهره ما رأى من حسن حاله وحسن هيئته فتلا قوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ثم قال بلى أصبر وأرضى وكان فقيرا مقلا .

فالذي هو في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن .

فإن من شاهد زينة الدنيا فإما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر إلى أن يتجرع مرارة الصبر وهو أمر من الصبر أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك هلاكا مؤبدا أما في الدنيا فبالطمع الذي يخيب في أكثر الأوقات فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له وأما في الآخرة فإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله تعالى والتقرب إليه .

ولذلك قال ابن الإعرابي .


إذا كان باب الذل من جانب الغنى     سموت إلى العلياء من جانب الفقر

أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا .

التالي السابق


(الفائدة الخامسة أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عن الناس، فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، فاشتغال المرء بصلاح نفسه أولى) هو من كلام أكثم بن صيفي أخرجه الخطابي في العزلة عنه قال: رضا الناس غاية لا تدرك ولا يكره من سخط من رضاه الجور .

وأخرج من طريق الشافعي أنه قال ليونس بن عبد الأعلى: يا أبا إسحاق رضا الناس غاية لا تدرك ليس إلى السلامة من الناس من سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك الزمه ودع الناس وما هم فيه .

(ومن أهون الحقوق وأيسرها حضور الجنائز وعيادة المرضى وحضور الولائم والإملاكات وفيها تضييع الأوقات) فيما لا يعني (والتعرض للآفات) الدينية والدنيوية (ثم قد يعوق عن بعضها) أي: يمنع (العوائق) الموانع الدهرية وفي نسخة: عائق (ويستقبل فيها المعاذير) جمع معذرة أو عذر (ولا يمكن إظهار كل الأعذار) فإن منها ما يجب كتمه (فيقولون) واعجبا (قمت بحق فلان) في حضورك عنده (وقصرت في حقنا فيصير ذلك سبب عداوة) وتربية ضغائن في القلوب .

(وقد قيل: من لم يعد مريضا في وقت العيادة اشتهى موته خيفة من تخجيله) وتصفير وجهه (إذا صح) من مرضه (على تقصيره) في عيادته (ومن عمم الناس كلهم بالحرمان رضوا عنه كلهم ولو خصص) بعضهم دون بعض (استوحشوا) ونغلت قلوبهم عليك (وتعميمهم بجميع الحقوق لا يقدر عليه المتجرد له طول الليل والنهار) من كل وجه (فكيف بمن له هم) وفي نسخة: (يشغله) وفي نسخة: فكيف من يلزمه شغل (في دين أو دنيا، وقال عمرو بن العاص) -رضي الله عنه- (كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء) شبه الأصدقاء بالغرماء في ملازمتهم ومطالبتهم الحقوق (وقال ابن الرومي) الشاعر المشهور في معنى ذلك:


(عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب)

جمع صاحب

(فإن الداء أول ما تراه يكون من الطعام أو الشراب)



(وقال الشافعي: أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام) رواه البيهقي والآبري وغيرهما في مناقب الشافعي، ولفظهم: الصنيعة إلى الأندال .

وأخرجه أبو نعيم في ترجمة سفيان الثوري من طريق ابن حنيف، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال: سمعت الثوري يقول: وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام (وأما انقطاع طمعك عنهم فهو أيضا فائدة جزيلة فإن من نظر إلى زهرة الدنيا) أي: متاعها (وزينتها [ ص: 360 ] تحرك) في (حرصه وانبعث بقوة الحرص طمعه) الفاسد (ولا يرى) غالبا (إلا الخيبة في أكثر الأطماع فيتأذى بذلك) طبعا (ومهما اعتزل عنهم لم يشاهد) تجملهم (وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع) فمن أدار ناظره أتعب خاطره (وكذلك قال) الله (تعالى) مخاطبا لحبيبه -صلى الله عليه وسلم- ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) قال ابن جرير وابن أبي حاتم: نزلت الآية في إسلاف النبي -صلى الله عليه وسلم- من يهودي دقيقا ورهنه درعه الحديد لما أبى أن يسلفه كأنه يعزيه عن الدنيا، والمراد بزهرة الدنيا بركات الأرض، وكان عروة إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ هذه الآية .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: انظروا إلى من هو دونكم) وفي رواية إلى من هو أسفل منكم؛ أي: في أمور الدنيا (ولا تنظروا إلى من هو فوقكم) فيها (فإنه أجدر) أي: أحق (أن لا تزدروا) أي: لا تحتقروا (نعمة الله عليكم) فإنكم إذا رأيتم من هو فوقكم طمحت نفسكم له واستصغرتم ما عندكم من نعم الله تعالى وحرصتم على الازدياد لتلحقوه أو تقاربوه، وإذا نظرتم للدون تواضعتم وشكرتم، وقد أخذ محمود الوراق هذا المعنى في قوله:


لا تنظرن إلى ذوي المال المؤثل والرياش
فتظل موصول النهار بحسرة قلق الفراش
وانظر إلى من كان مثلك أو نظيرك في المعاش
تقنع بعيشك كيف كان وترض منه بانتعاش



قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة. اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحكيم في نوادر الأصول (وقال عون بن عبد الله) بن عتيبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المكي عابد ثقة مات قبل سنة عشرين ومائة، روى له مسلم وأصحاب السنن (كنت أجالس الأغنياء فلم أزل مغموما كنت أرى ثوبا أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت) من الغم .

(وحكي أن المزني) صاحب الشافعي (-رحمه الله تعالى- خرج) (من باب جامع الفسطاط) هو جامع عمرو بن العاص -رضي الله عنه- والفسطاط اسم لمصر (وقد أقبل) محمد بن عبد الله (بن عبد الحكم في موكبه) وكان ذا ثروة وأبهة (فبهره ما رأى من حسن حاله وهيئته فتلا قوله تعالى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) وكان ربك بصيرا، ثم قال في نفسه (بلى أصبر وأرضى وكان) المزني (فقيرا) متقشفا (مقلا) عادما (فالذي هو في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن فأما من شاهد زينة الدنيا) وبهجتها لا يخلو من حالين (فإما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر) على ما هو عليه (فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر وهو) أي: الصبر (أمر من الصبر) ككتف على الأشهر الدواء المر معروف وبالسكون لغة على التخفيف ومنهم من قال لم يسمع تخفيفه في السعة . وحكى ابن السيد في مثلث اللغة جواز التخفيف كما في نظائره بسكون الباء مع فتح الصاد وكسرها فتكون فيه ثلاث لغات .

(وإما أن تنبعث رغبته فيحتال في) طلب (الدنيا) حتى يقارب من رأى أو يضاهيه (فيهلك هلاكا مؤبدا إما في الدنيا فبالطمع الذي يخيب في أكثر الأوقات فليس كل من يطلب الدنيا يتيسر له) حصولها ويتسهل (وإما في الآخرة فبإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله تعالى والتقرب إليه ولذلك قال ابن الأعرابي) أحد أئمة الأدب:


(إذا كان باب الذل في جانب الغنى سموت إلى العلياء من جانب الفقر)



أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا ولو أدرك به مأموله .




الخدمات العلمية