الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن ظهر بحيث لم يقبل التحسين فينبغي أن لا تغضب إن قدرت ولكن ذلك لا يمكن وقد قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار ، ومن استرضي فلم يرضى فهو شيطان .

فلا تكن حمارا ولا شيطانا واسترض قلبك بنفسك نيابة عن أخيك واحترز أن تكون شيطانا إن لم تقبل .

قال الأحنف حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثا : ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة .

وقال آخر : ما شتمت أحدا قط لأنه إن شتمني كريم فأنا أحق من غفرها له أو لئيم فلا أجعل عرضي له غرضا ثم تمثل وقال :


وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

وقد قيل:


خذ من خليلك ما صفا     ودع الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معا     تبة الخليل على الغير



ومهما اعتذر إليك أخوك كاذبا كان أو صادقا فاقبل عذره .

قال عليه السلام : من اعتذر إليه أخوه فلم يقبل عذره فعليه مثل إثم صاحب المكس .

وقال عليه السلام : " المؤمن سريع الغضب سريع الرضا .

" فلم يصفه بأنه لا يغضب .

وكذلك قال الله تعالى والكاظمين الغيظ ولم يقل والفاقدين الغيظ وهذا لأن العادة لا تنتهي إلى أن يجرح الإنسان فلا يتألم بل تنتهي إلى أن يصبر عليه ويحتمل وكما أن التألم بالجرح مقتضى طبع البدن فالتألم بأسباب الغضب طبع القلب ولا يمكن قلعه ولكن ضبطه وكظمه والعمل بخلاف مقتضاه فإنه يقتضي التشفي والانتقام والمكافأة ، وترك العمل بمقتضاه ممكن . وقد قال الشاعر :


ولست بمستبق أخا     لا تلمه على شعث

أي الرجال المهذب ؟! قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري إذا واخيت أحدا في هذا الزمان فلا تعاتبه على ما تكرهه فإنك لا تأمن من أن ترى في جوابك ما هو شر من الأول قال فجربته فوجدته كذلك .

وقال بعضهم : الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته والمعاتبة خير من القطيعة والقطيعة خير من الوقيعة .

التالي السابق


(فإن ظهر عيب بحيث لم يقبل التحسين) أصلا (فينبغي أن لا تغضب إن قدرت) على ذلك (ولكن ذلك لا يمكن وقد قال) الإمام (الشافعي) -رضي الله عنه- فيما أخرجه الآبدي وأبو نعيم والبيهقي كلهم في مناقبه بأسانيدهم إلى الربيع وأحمد بن سنان كلاهما عن الشافعي أنه قال: (من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان) وأراد بكونه حمارا أنه بليد لا يعي .

وأخرج البيهقي في الشعب عن جعفر الصادق قال: من لم يغضب عند التقصير لم يكن له شكر عند المعروف (فلا تكن حمارا) بليدا (ولا شيطانا) مريدا (واسترض قلبك بنفسك نيابة عن أخيك واحترز أن تكون شيطانا إن لم تقبل) فقد يكون الغضب محمودا في بعض الأحيان وبه تكمل الخليقة الإنسانية، وقال الراغب: الغضب في الإنسان نار تشتعل، والناس مختلفون، فمنهم كالحلفاء سريع الوقود سريع الخمود، وبعضهم كالعصي بطيء الوقود بطيء الخمود، وبعضهم سريع الوقود بطيء الخمود، وبعضهم على عكس ذلك، وهو أحمدهم ما لم يكن مفضيا به إلى زوال حميته وفقدان غيرته، واختلافهم تارة يكون بحسب الأمزجة وتارة بحسب اختلاف العادة، وأسرع الناس غضبا الصبيان والنساء، وأكثرهم ضجرا الشيوخ .

(وقال الأحنف) بن قيس التميمي، تقدمت ترجمته مرارا: (حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثة: ظلم الغضب) أي: إذا غضب عليك فاحتمله إذ هو نار تشتعل وإخمادها السكوت والاحتمال (ظلم الدالة) بتشديد اللام اسم من الإدلال أي: إذا أتم عليك فاحتمله (وظلم الهفوة) أي: الكلمة القبيحة تبدر من لسانه، فاحتمله أيضا؛ إذ يرجى له الرجوع في كل من الثلاثة. نقله صاحب القوت، فقال: وحدثونا عن الأصمعي قال: حدثنا العلاء بن جرير عن أبيه، قال الأحنف بن قيس: من حق الصديق أن تحتمل له ثلاثا: أن تتجاوز عن ظلم الغضب وظلم الهفوة وظلم الدالة (وقال آخر: ما شتمت أحدا قط لأنه إن شتمني كريم فأنا أحق من غفرها) وتجاوز عنها (أو لئيم فلا أجعل عرضي له غرضا) يهدفه بسهام شتمه (ثم تمثل) بقول الشاعر (وقال:


وأغفر زلات الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما)



وفي نسخة: "وأغفر عوراء الكريم" والعوراء: هي الكلمة القبيحة، ولفظ القوت: وكان أسماء بن خارجة الفزاري يقول: ما شتمت أحدا قط؛ لأنه إنما يشاتمني أحد رجلين: كريم كانت عنده هفوة وزلة فأنا أحق من غفرها وأثاب عليها بالفضل، أو لئيم فلم أكن أجعل عرضي له غرضا، ثم تمثل:


وأغفر عوراء الكريم اصطناعه وأعرض عن ذات اللئيم تكرما



قال: وأنشدونا لمحمد بن عامر في الإخوان :


ولا تعجل على أحد بظلم فإن الظلم مرتعه وضيم
ولا تفحش وإن ملئت ظلما على أحد فإن الفحش لوم



[ ص: 232 ]

ولا تقطع أخاك لأجل ذنب فإن الذنب يغفره الكريم
ولكن دار عورته برقع كما قد يرقع الخلق القديم



وقد قيل: في هذا المعنى :


(خذ من خليلك ما صفا ودع الذي فيه الكدر)
(فالعمر أقصر من معا تبة الخليل على الغير)



وفي القوت: وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف قال: خذ من أخلاق الناس ومن أعمالهم ما تظهر من غير تجسس، وقد أنشدونا لبعض الحكماء في ذلك شعرا فساقه (ومهما اعتذر إليك أخوك) سواء (كاذبا كان) في اعتذاره (أو صادقا فاقبل) ذلك منه، فقد روى الديلمي عن أنس في حديث رفعه "ومن اعتذر قبل الله معذرته" وأنشد البيهقي في الشعب لبعضهم:


اقبل معاذير من يأتيك معتذرا إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا



وفي كتاب المجالسة من طريق محمد بن سلام قال: قال بعض الحكماء: أقل الاعتذار وموجب للقبول وكثرته ريبة، (قال -صلى الله عليه وسلم-: من اعتذر إليه أخوه) أي: طلب قبول معذرته، ويقال: اعتذر عن فعله أظهر ما يمحو به الذنب (فلم يقبل) منه (عذره فعليه مثل إثم صاحب المكس) وهو ما يأخذه أعوان السلطان ظلما عند البيع والشراء، وفيه إيذان بعظم جرم المكس، وأنه من الجرائم العظام .

قال الراغب: وجميع المعاذير لا تنفك عن ثلاثة أوجه: إما أن يقول: لم أفعل وقد فعلت لأجل كذا، فيبين ما يخرجه عن كونه ذنبا، أو يقول: فعلت ولا أعود، فمن أنكر وأنبأ عن كذب ما نسب إليه فقد برئت ساحته وإن فعل وجحد فقد يعد التغابي عنه كرما، ومن أقر فقد استوجب العفو بحسن ظنه بك، وإن قال: فعلت ولا أعود فهذا هو التوبة. وحق الإنسان أن يقتدي بالله في قبولها. انتهى. أي: إن من صفات الله تعالى قبول الاعتذار والعفو عن الزلات، فمن أبى واستكبر عن ذلك فقد عرض نفسه لغضب الله ومقته .

قال العراقي: رواه ابن ماجه وأبو داود في المراسيل من حديث جودان، واختلف في صحبته، وجهله أبو حاتم، وباقي رجاله ثقات، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بسند ضعيف. انتهى .

قلت: وأخرجه كذلك الضياء في المختارة وابن حبان في روضة العقلاء عن طريق وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن ابن ميناء عن جودان وهو بالضم صحابي، وقال: ابن جودان نزل الكوفة، وذكره البغوي في معجم الصحابة وقال: ليس له غيره .

وأخرجه أيضا البارودي وابن قانع والبيهقي وأبو نعيم وفي الإصابة، قال ابن حبان: إن كان ابن جريج سمعه فهو حسن غريب، وأنكره أبو حاتم وقال: لا صحبة له، ثم لفظ الجماعة: "من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس". وأما حديث جابر فأخرجه أيضا سمويه في فوائده والحارث بن أبي أسامة والبيهقي في الشعب، وفي الباب عن عائشة بلفظ: "من اعتذر إليه أخوه المسلم من ذنب قد أتاه فلم يقبل لم يرد علي الحوض". رواه أبو الشيخ.

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن سريع الغضب سريع الرضا") كذا في القوت، وزاد: فهذه بهذه، قال العراقي: لم أجده هكذا، وللترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد الخدري: "إلا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى" الحديث، وفيه: "منهم سريع الغضب سريع الفيء فتلك بتلك" انتهى .

قلت: وله شاهد من حديث علي: "خيار أمتي أحداؤهم" وهم الذين إذا غضبوا رجعوا، رواه البيهقي في الشعب والطبراني في الأوسط بسند فيه يغنم بن سالم بن قنبر، وهو كذاب .

وأخرج الديلمي من طريق الزبير بن عدي عن أنس رفعه: "الحدة لا تكون إلا في صالح أمتي وأبرارها ثم تفيء" (فلم يصفه بأنه لا يغضب) أصلا .

(وكذا قال الله تعالى) في حق المؤمنين ( والكاظمين الغيظ ولم يقل الفاقدين الغيظ) فإنما ركبت هذه الصفات والقوى محكا لامتحان كل مؤمن كامل عن غيره (وهذه لأن العادة لا تنتهي إلى أن يجرح الإنسان فلا يتألم بل ينتهي إلى أن يصبر عليه ويحتمل) له (وكما أن التألم بالجرح مقتضى طبع البدن فالتألم بأسباب الغضب طبع للقلب ولا يمكن قلعه) وإزالته (ولكن يمكن ضبطه) [ ص: 233 ] وحبسه (وكظمه والعمل بخلاف مقتضاه فإنه) أي: الغضب ثوران دم من القلب متى تحرك تتولد منه أحوال خبيثة، ومتى تحقق تحركه على من هو دونه فإنه (يقتضي التشفي والانتقام والمكافأة، وترك العمل بمقتضاه ممكن. وقد قال الشاعر:


ولست بمستبق أخا لا تلمه )

أي: لا تصلحه (على شعث) أي: تفرق وفساد حال (أي الرجال المهذب؟!) أي: أرني المهذب الأخلاق الكامل من الرجال؛ فإنه قليل الوجود عزيز النظر .

(قال أبو سليمان الدارني) -رحمه الله تعالى- (لأحمد بن أبي الحواري) وكان تلميذه: يا أحمد (إذا واخيت أخا في هذا الزمان فلا تعاتبه على ما تكرهه) منه (فإنك لا تأمن أن ترى في جوابك) منه (ما هو شر من الأول) أي: مما كان فيه مما تركه منه فإن رياضة النفوس صعبة (قال) أحمد (فجربته فوجدته كذلك) نقله صاحب القوت .

(وقال بعضهم: الصبر على مضض الأخ) أي: غصصه وشداته (خير من معاتبته) لأن المعاتبة تهيج البشر (والمعاتبة) على التقصير في الحقوق (خير من القطيعة) والهجران (والقطيعة خير من الوقيعة) فيه بما لا يليق. نقله صاحب القوت، وكان أبو الدرداء يقول: معاتبة الصديق خير من فقده، ومن لك بأخيك كله؟ هن لأخيك ولن له ولا تطع الشيطان في أمره، غدا يوافيه الموت فيكفيك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟!




الخدمات العلمية