الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المثار الثالث للشبهة أن يتصل بالسبب المحلل معصية .

إما في قرائنه وإما في لواحقه وإما في سوابقه أو في عوضه وكانت من المعاصي التي لا توجب فساد العقد وإبطال السبب المحلل .

مثال المعصية في القرائن البيع في وقت النداء يوم الجمعة والذبح بالسكين المغصوبة والاحتطاب بالقدوم المغصوب والبيع على بيع الغير والسوم على سومه فكل نهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد فإن الامتناع من جميع ذلك ورع ، وإن لم يكن المستفاد بهذه الأساليب محكوما بتحريمه .

وتسمية هذا النمط شبهة فيه تسامح ; لأن الشبهة في غالب الأمر تطلق لإرادة الاشتباه والجهل ولا اشتباه ههنا ، بل العصيان بالذبح بسكين الغير معلوم ، وحل الذبيحة أيضا معلوم ولكن قد تشتق الشبهة من المشابهة وتناول الحاصل من هذه الأمور مكروه والكراهة تشبه التحريم فإن أريد بالشبهة هذا فتسمية هذا شبهة له وجه وإلا فينبغي أن يسمى هذا كراهة لا شبهة ، وإذا عرف المعنى فلا مشاحة في الأسامي فعادة الفقهاء التسامح في الإطلاقات .

ثم اعلم أن هذه الكراهة لها ثلاث درجات ; الأولى منها تقرب من الحرام والورع عنه مهم والأخيرة تنتهي إلى نوع من المبالغة تكاد تلتحق بورع الموسوسين وبينهما أوساط نازعة إلى الطرفين .

التالي السابق


( المثار الثالث للشبهة أن يتصل بالسبب المحلل ) ، أي: السبب الذي طرأ بسببه الحل (معصية) لله تعالى، (إما في قرائنه) المتصلة به، (وإما في لواحقه وإما في سوابقه) من بعد ومن قبل، (أو في عوضه) المدفوع فيه، (وكانت) تلك المعصية (من المعاصي التي لا توجب فساد العقد وإبطال السبب المحلل) ، اعلم أن الفساد والبطلان لفظان مترادفان بإزاء الصحة عند أصحاب الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ما لا يكون مشروعا لا بحسب أصله، ولا بحسب وصفه يسمى باطلا، كبيع الملاقيح والمضامين ، فإن أصل المبيع يجب أن يكون موجودا مرئيا، ووصفه يجب أن يكون مقدور التسليم، وما كان مشروعا بحسب أصله غير مشروع بحسب وصفه كالربا يسمى فاسدا، فإن أصله مشروع، ووصفه وهو التفاضل غير مشروع في القواعد للتاج السبكي وفرق أصحابنا بين [ ص: 56 ] الباطل والفاسد فرقا ليس على أصول الحنفية ، ومع ذلك قد جوز الشيخ الوالد في باب القراض من شرح المنهاج أنه لا فرق أصلا، ثم ساق المسائل التي يخيل فيها الفرق، فقال: منها الحج يبطل بالردة ويفسد بالجماع إلى آخر ما ذكره. (مثال المعصية في القرائن البيع في وقت النداء يوم الجمعة ) ، لقوله تعالى: وذروا البيع ، ولأن فيه إخلالا بالواجب على بعض الوجوه وهو السعي بأن قعدا للبيع أو وقفا له، وفي النهاية لأصحابنا أنهما إذ تبايعا وهما يمشيان فلا بأس به، وعزاه إلى أصول الفقه لأبي اليسر ، وهو مشكل، فإن الله تعالى نهى عن البيع مطلقا، فمن أطلقه في بعض الوجوه يكون تخصيصا، وهو نسخ لا يجوز بالرأي والأذان المعتبر في تحريم البيع هو الأول إذا وقع بعد الزوال على المختار .

وفي القوت: رواه ابن وهب ، قال: قال مالك : في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة قال: يفسخ ذلك البيع قيل: عامل وترك القيام لها وهو حر، قال: بئس ما صنع، فليستغفر ربه عز وجل، وقال ربيعة : ظلم وأساء، قال: وقال مالك : يحرم البيع حين يخرج الإمام يوم الجمعة، ( والذبح بالسكين المغصوبة ) ، بأن غصبها من أحد وذبح بها حيوانا مأكولا، ( والاحتطاب بالقدوم المغصوبة ) كذلك، ( والبيع على بيع الغير ) إلا أن يأذن له لما رواه أحمد والشيخان: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه" .

وروى أحمد من حديث ابن عمر بزيادة: إلا أن يأذن له ، وعند النسائي : لا يبع أحدكم على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر ، ولأن في ذلك إيحاشا وإضرارا به، (والسوم على أخيه) لما روى النهي في ذلك أيضا، ولفظه: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسم على سوم غيره" .

(وكل نهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد فإن الامتناع عن جميع ذلك ورع، وإن لم يكن المستفاد بهذه الأسباب محكوما بتحريمه) ، ولذا عد أصحابنا الصور المتقدمة من مكروهات البيع لا من محرماته، وتقدم الكلام على ذلك في كتاب البيوع، (وتسمية هذا النمط شبهة فيه تسامح; لأن الشبهة في غالب الأمر تطلق لإرادة الاشتباه والجهل) بأن يجهل حل الشيء من حرمته على الحقيقة، ولذا عبر عنها بعضهم بقوله: ما لم يتعين حله ولا حرمته، (ولا اشتباه ههنا، بل العصيان بالذبح بسكين الغير) غصبا (معلوم، وحل الذبيحة أيضا معلوم) ، فلم يبق اشتباه، (ولكن قد تشتق الشبهة من المشابهة) ، وهي المماثلة في عين كان أو معنى، (وتناول هذه الأمور) التي ذكرت (مكروه) ، لورود النهي فيها على ما سبق، (والكراهة تشبه التحريم) ; لأن كلا منهما بخطاب مقتض للترك بنهي مخصوص إلا أن في التحريم اقتضاء جازما دون الكراهة، (فإن أريد بالشبهة هذا فتسمية هذا شبهة له وجه) مناسب باعتبار الاشتقاق، ولذا عبر عنها بعضهم بقوله: هي مشابهة الحق للباطل والباطل للحق من وجه، إذا تحقق النظر فيه ذهب، (وإلا فينبغي أن يسمى هذا كراهة لا شبهة، وإذا عرفت المعنى) المراد (فلا مشاحة في الأسامي) كما لا مشاحة في الاصطلاح .

(فعادة الفقهاء التسامح في الإطلاقات) ، وإنما عمدتهم على تصحيح المعاني والمشاحة في الأسامي من عادة أهل الألفاظ، والمشاحة مفاعلة من الشح وهو التضيق، (ثم اعلم أن الكراهة لها ثلاث درجات ; الأولى منها تقرب من الحرام والورع عنه مهم) جدا، (والأخيرة تنتهي إلى نوع من المبالغة) والتشديد، (تكاد تلتحق بورع الموسوسين) ، وليس هذا الورع مطلوبا، (وبينهما أوساط نازعة إلى الطريقين) .




الخدمات العلمية