الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومثارات الشبهة خمسة .

المثار : الأول :

الشك في السبب المحلل والمحرم .

، وذلك لا يخلو إما أن يكون متعادلا أو غلب أحد الاحتمالين فإن تعادل الاحتمالان كان الحكم لما عرف قبله فيستصحب ولا يترك بالشك وإن غلب أحد الاحتمالين عليه بأن صدر عن دلالة معتبرة كان الحكم للغالب ولا يتبين هذا إلا بالأمثال والشواهد ، فلنقسمه إلى أقسام أربعة .

; القسم الأول : أن يكون التحريم معلوما من قبل ثم يقع الشك في المحل فهذه شبهة يجب اجتنابها ويحرم الإقدام عليها .

مثاله أن يرمي إلى صيد فيجرحه ويقع في الماء فيصادفه ميتا ولا يدري أنه مات بالغرق أو بالجرح فهذا حرام ; لأن الأصل التحريم إلا إذا مات بطريق معين وقد وقع الشك في الطريق فلا يترك اليقين بالشك كما في الأحداث والنجاسات وركعات الصلاة وغيرها ، وعلى هذا ينزل قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : لا تأكله ، فلعله قتله غير كلبك .

فلذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء اشتبه عليه أنه صدقة أو هدية سأل عنه حتى يعلم أيهما هو .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم أرق ليلة فقالت له بعض نسائه أرقت : يا رسول الله فقال ، ؟ : أجل وجدت تمرة فخشيت أن تكون من الصدقة .

وفي رواية : فأكلتها ، فخشيت أن تكون من الصدقة ومن ذلك ما روي عن بعضهم أنه قال : كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابنا الجوع ، فنزلنا منزلا كثير الضباب فبينا القدور تغلي بها إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمة مسخت من بني إسرائيل أخشى أن تكون هذه فأكفأنا القدور .

ثم أعلمه الله بعد ذلك أنه لم يمسخ الله خلقا فجعل له نسلا .

وكان امتناعه أولا ; لأن الأصل عدم الحل وشك في كون الذبح محللا .

التالي السابق


( ومثارات الشبهة خمسة: الأول: الشك في السبب المحلل والمحرم ، وذلك لا يخلو إما أن يكون متعادلا) لا ترجيح لأحدهما، (أو غلب أحد الاحتمالين) بأمارة قائمة، (فإن تعادل الاحتمالان كان الحكم لما عرف قبله فيستصحب ولا يترك بالشك) ، بل يبقى ما كان على ما كان لفقد المغير أو مع ظن انتفائه عند بذل المجهود في البحث والطلب، (وإن غلب أحد الاحتمالين عليه بصدوره عن دلالة معتبرة كان الحكم للغالب) منهما، (ولا يتبين هذا إلا بالمثال والشواهد، فلنقسمه إلى أقسام أربعة; القسم الأول: أن يكون التحريم معلوما من قبل ثم يقع الشك في المحلل) الطارئ، (فهذه شبهة يجب اجتنابها ويحرم الإقدام عليها، مثاله أن يرمي إلى صيد) بسهمه (فيجرحه) بإصابته (فيقع في الماء فيصادفه ميتا ولا يدري أنه مات بالغرق) حين وقع في الماء (أو بالجرح) السابق، (فهذا حرام; لأن الأصل التحريم) فيبقى على أصله; (إلا إذا مات بطريق معين وقد وقع الشك كما) قالوا (في الأحداث والنجاسات وركعات الصلوات وغيرها، وعلى هذا ينزل قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم:) الطائي رضي الله عنه ( لا تأكله، فلعله قتله غير كلبك ) رواه الشيخان من حديثه، (ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء اشتبه عليه أنه صدقة أو هدية سأل عنه حتى يعلم أيهما هو) .

قال العراقي : رواه البخاري ومسلم وابن ماجه من حديثه: "كان إذا أتي بطعام سأل عنه، أهدية أم صدقة، فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم" . ورواه أحمد فزاد: كان إذا أتي بطعام من غير أهله ، (وروي أنه صلى الله عليه وسلم أرق ليلة) أي: قلق في نومه، (فقال له بعض نسائه: يا رسول الله، أرقت؟ قال: أجل) أي: نعم، (وجدت تمرة فخشيت أن تكون من الصدقة، وفي رواية: فأكلتها، فخشيت أن تكون من الصدقة) .

قال العراقي : رواه أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد حسن، (ومن ذلك ما روي عن بعضهم) أي: من الصحابة، وهو عبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنه كما سيأتي، (أنه قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابنا الجوع، فنزلنا منزلا كثير الضباب ) جمع ضب، وهو حيوان معروف تستطيبه العرب، فاصطدنا منها وطبخنا، ( فبينا القدور تغلي بها إذ قال عليه ) الصلاة و ( السلام: أمة مسخت من بني إسرائيل ) أي: قوم منهم [ ص: 35 ] ( فأخاف أن تكون هذه ) الضباب، أي: مما مسخ، ( فأكفأنا القدور ) ، أي: قلبناها بما فيها .

قال العراقي : رواه ابن حبان والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن حسنة .

وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ثابت بن يزيد نحوه، مع اختلاف، قال البخاري : وحديث ثابت أصح اهـ .

قلت: رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو يعلى والبزار والبيهقي وغيرهم، كلهم من طريق زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن حسنة ، قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبنا ضبابا، فكانت القدور تغلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقلنا: أصبناها، فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت، وأنا أخشى أن تكون هذه، فأكفأناها وإنا لجياع" . ورواه أبو داود من رواية زيد بن وهب عن ثابت بن وديعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبنا ضبابا، فشويت منها ضبا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته بين يديه، فأخذ عودا فمد به أصابعه ثم قال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب الأرض، وإني لا أدري أي الدواب هي، فلم يأكل ولم ينسأه . ورواه النسائي وابن ماجه ، وقال ثابت بن يزيد : وهما واحد، يزيد أبوه ووديعة أمه، قاله الترمذي والبيهقي ، وقال المزني : هو ثابت بن يزيد بن وديعة ، قال البخاري : حديث زيد بن وهب عن ثابت بن وديعة أصح، ويحتمل عنهما جميعا اهـ .

(ثم أعلمه الله تعالى بعد ذلك أنه لم يمسخ الله خلقا فجعل له نسلا) ، قال العراقي : رواه مسلم من حديث ابن مسعود ، قلت: لفظ مسلم عن ابن مسعود قال: "قال رجل: يا رسول الله، القردة والخنازير مم مسخ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" ، (وكان امتناعه أولا; لأن الأصل في الأشياء عدم الحل) حتى يتبين تحليله من الشرع، وهو قول بعض العلماء، (وشك في كون الذبح محللا) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاف أكل الضب ويقول: ليس من أرض قومي، وثبت أنه أكل على مائدته صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في آخر الباب الثاني .




الخدمات العلمية