الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن هذه الدرجة الاحتراز عما يتسامح به الناس ، فإن ذلك حلال في الفتوى ولكن يخاف من فتح بابه أن ينجر إلى غيره وتألف النفس الاسترسال وتترك الورع ، فمن ذلك ما روي عن علي بن معبد أنه قال : كنت ساكنا في بيت بكراء فكتبت كتابا وأردت أن آخذ من تراب الحائط لأتربه وأجففه ، ثم قلت : الحائط ليس لي ، فقالت لي نفسي : وما قدر تراب من حائط فأخذت من التراب حاجتي فلما نمت فإذا أنا بشخص واقف يقول : يا علي بن معبد سيعلم غدا الذي يقول وما قدر تراب من حائط ولعل معنى ذلك أنه يرى كيف يحط من منزلته ، فإن للتقوى درجة تفوت بفوات ورع المتقين ، وليس المراد به أن يستحق عقوبة على فعله .

ومن ذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه وصله مسك من البحرين فقال : وددت لو أن امرأة وزنت حتى أقسمه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة : أنا أجيد الوزن فسكت عنها ثم أعاد القول فأعادت الجواب ، فقال : لا أحببت أن تضعيه بكفة ثم تقولين : فيها أثر الغبار فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلا على المسلمين .

وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك للمسلمين .

فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال وهل : ينتفع منه إلا بريحه لما استبعد ذلك منه .

وأخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة وكان صغيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كخ كخ ، أي : ألقها .

ومن ذلك ما روي بعضهم أنه كان عند محتضر فمات ليلا فقال : أطفئوا السراج قد حدث للورثة حق في الدهن .

وروى سليمان التيمي عن نعيمة العطارة قالت كان عمر رضي الله عنه يدفع إلى امرأته طيبا من طيب المسلمين لتبيعه ، فباعتني طيبا ، فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسر بأسنانها ، فتعلق بإصبعها شيء منه فقالت به : هكذا بإصبعها ثم مسحت به خمارها ، فدخل عمر رضي الله عنه فقال : ما هذه الرائحة ؟ فأخبرته فقال : طيب المسلمين تأخذينه فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرة من الماء ، فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ، ثم يصب الماء ، ثم يدلكه في التراب ويشمه ، حتى لم يبق له ريح قالت ثم أتيتها مرة أخرى ، فلما وزنت علق منه شيء بإصبعها ، فأدخلت إصبعها في فيها ثم مسحت به التراب فهذا من عمر رضي الله عنه ورع التقوى لخوف أداء ذلك إلى غيره وإلا فغسل الخمار ما كان يعيد الطيب إلى المسلمين ولكن أتلفه عليها زجرا وردعا واتقاء من أن يتعدى الأمر إلى غيره .

ومن ذلك ما سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن رجل يكون في المسجد يحمل مجمرة لبعض السلاطين ويبخر المسجد بالعود فقال : ينبغي أن يخرج من المسجد ، فإنه لا ينتفع من العود إلا برائحته وهذا قد يقارب الحرام ، فإن القدر الذي يعبق بثوبه من رائحة الطيب قد يقصد وقد يبخل به فلان ، يدري أنه يتسامح به أم لا .

وسئل أحمد بن حنبل عمن سقطت منه ورقة فيها أحاديث ، فهل لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها ؟ فقال : لا بل يستأذن ثم يكتب .

التالي السابق


(وفي هذه الدرجة الاحتراز عما يتسامح به ، فإن ذلك حلال في الفتوى) الظاهرة (ولكن يخاف من فتح بابه أن ينجر إلى غيره وتألف النفس الاسترسال) والتشهي، (فتترك الورع، فمن ذلك ما روي عن علي بن معبد) بن نوح البغدادي نزيل مصر ثقة مات سنة تسع وخمسين ومائتين (أنه قال: كنت ساكنا في بيت بكراء فكتبت) يوما، (كتابا وأردت أن آخذ من تراب الحائط لأتربه وأجففه، ثم قلت:) في نفسي (الحائط ليس لي، فقالت لي نفسي: وما قدر تراب من حائط) واستحقرته (فأخذت من التراب حاجتي) من تتريب الكتب، (فلما نمت فإذا أنا بشخص واقف يقول: يا علي سيعلم غدا الذين يقولون وما قدر تراب من حائط) .

قال المصنف: (ولعل معنى ذلك أنه يرى) غدا (كيف تحط منزلته، فإن للتقوى منزلة تفوت بفوات ورع المتقين، وليس المراد به أنه يستحق عقوبة على فعله) ، إذ كان ذلك جائزا في ظاهر الفتوى .

وفي القوت: عبد الصمد بن مقاتل ، قال: كانوا يكتبون الكتاب ولا يتربونه من دور السبيل يرسلون فيأخذون من طين البحر، (ومن ذلك ما روي أن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه وصله مسك) وهو طيب معروف (من البحرين ) ناحية البصرة ، (فقال: وددت لو أن امرأة وزنت حتى أقسمه بين المسلمين) بالسوية على مراتبهم، (فقالت امرأته عاتكة:) ابنة زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر تحت سعيد بن زيد (أنا أجيد الوزن، فقال: لا أحببت أن تضعيه في الكفة) أي: كفة الميزان (ثم تقولين: فيها) أي: في الكفة (أثر الغبار) من بقايا المسك، (فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلا على المسلمين) ، ولفظ القوت: عبد العزيز بن أبي سلمة قال: حدثنا إسماعيل بن محمد قال: قدم على عمر رضي الله عنه مسك من البحرين فقال: والله لوددت أني أجد امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين، فقالت امرأته عاتكة : أنا جيدة الوزن فهلم أزن لك، قال: لا، قلت: ولم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا، وأدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين عنقك فأصيب فضلا عن المسلمين .

قلت: وهو في كتاب الزهد للإمام أحمد أخرجه من طريق محمد بن إسماعيل عن سعيد بن أبي وقاص قال: قدم على عمر مسك وعنبر من البحرين والباقي سواء، (وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز ) الخليفة (مسك) أتي به من بعض النواحي فيه حق، (للمسلمين فأخذ بأنفه) أي: سدها بيده (حتى لا تصيبه الرائحة) منه حالة الوزن، (وقال: هل ينتفع الآن إلا بريحه) ، قال ذلك (لما استبعد ذلك منه) .

ولفظ القوت: روينا عن أبي عوانة عن عبد الله بن راشد قال: أتيت عمر بن عبد العزيز بالطيب الذي كان في بيت المال فأمسك على أنفه وقال: إنما ينتفع بريحه، (وأخذ الحسين بن علي) بن أبي طالب رضي الله عنهما (تمرة من الصدقة وكان صغيرا فقال) له (رسول الله صلى الله عليه وسلم: كخ، أي: ألقها) .

قال العراقي : رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، قلت: ولفظه: "أخذ الحسن بن علي تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال له: كخ كخ، ارم بها، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة" . وقد رواه مسلم كذلك فما في نسخ الكتاب الحسين بن علي تحريف من النساخ، وكخ كخ بفتح الكاف وكسرها وسكون المعجمة مثقلا ومخففا وبكسرها منونة وغير منونة، فهي ست لغات، وهي كلمة ردع للطفل عن تناول شيء .

قال الزمخشري : ويقال عند التقدر من الشيء أيضا اهـ. وهي من أسماء الأفعال على ما في التسهيل، ومن أسماء الأصوات على ما في حواشيه الهشامية عربية أو معربة، والمراد بالصدقة [ ص: 27 ] الفرض; لأن السياق قد خصها به، فإنه هو الذي يحرم على آله، وفيه: "إن الطفل يجنب عن الحرام لينشأ عليه ويتمرن"، (ومن ذلك ما روي عن بعضهم أنه كان عند محتضر) هو الذي قد حضره أجله، (فمات ليلا فقال: أطفئوا السراج فقد حدث) بموته، (حق للورثة في الدهن) .

وفي القوت: حدثت عن موسى عن عبد الرحمن بن مهدي قال: لما قبض عمي أغمي على أبي، فلما أفاق قال: البساط أدرجوه لغلة الورثة، وعن ابن أبي خالد قال: كنت مع أبي العباس الخطاب وقد جاءه يعزي رجلا ماتت امرأته، وفي البيت بساط، فقام أبو العباس على باب البيت فقال: أيها الرجل معك وارث غيرك؟ قال: نعم، قال: قعودك على ما لا تملك، فتنحى الرجل عن البساط، وحدثت عن أبي الضحاك صاحب بشر بن الحارث قال: كان يجيء إلى أخته حين مات زوجها فيبيت عندها، فيجيء معه بشيء يقعد عليه ولم ير أن يقعد على ما خلف من غلة الورثة، (وروى سليمان) بن طرفان (التيمي) أبو المعتمر البصري، ثقة من كبار العباد، (عن نعيم) بن عبد الله (العطار) ، ويقال له: المجمر المدني من موالي آل عمر بن الخطاب ثقة، روى له الجماعة، (قال) ولفظ القوت: سليمان التيمي عن العطارة ، قالت: (كان عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (يدفع إلى امرأته) ، وهي عاتكة بنت زيد (طيبا من طيب المسلمين قال: فتبيعه امرأته، فباعتني طيبا، فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسر بأسنانها، فتعلق بأصبعها شيء منه) عند مزاولتها إياه (فقالت: هكذا بأصبعها ثم مسحت به خمارها، فدخل عمر ) رضي الله عنه (فقال: ما هذه الريح؟ فأخبرته) الخبر، (فقال: طيب المسلمين تأخذينه) كالمنكر عليها، (فانتزع الخمار من رأسها وانتزع جرة من ماء، فجعل يصب على الخمار) من ذلك الماء (ثم يدلكه على التراب ثم يشمه، ثم يصب الماء، ثم يدلكه في التراب، ثم يشمه حتى لم يبق له ريح) قال: ولفظ القوت: قالت العطارة ، ( ثم أتيتها مرة أخرى وبين يديها الطيب، فلما وزنت علق بأصبعها منه شيء، فأدخلت أصابعها في فيها ثم مسحت بها التراب ) حتى لا يعلق بها أثر الطيب، (فهذا من عمر ) رضي الله عنه (ورع التقوى لخوف أداء ذلك إلى غيره) سدا للباب، (وإلا فغسل الخمار بالماء) مع دلكه بالتراب مرارا (ما كان يعيد الطيب إلى المسلمين) ; لأنه لم ينقص من حقهم شيئا، (ولكن أتلفه عليها ردعا وزجرا) لها، (واتقاء من أن يتعدى الأمر مرة أخرى) ، وتمرينا لها على التقوى حتى تعتاد عليه، (ومن ذلك ما سئل أحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى (عن رجل في المسجد يحمل مجمرة) بكسر الميم، هي المبخرة والمدخنة، (لبعض السلاطين ويبخر المسجد بالعود) ، ونحوه، (فقال: ينبغي أن يخرج من المسجد حتى يفرغ) الرجل (من بخوره، فإنه لا ينتفع من العود إلا برائحته) .

وفي القوت: روى ابن عبد الخالق عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله : إني أكون في المسجد في شهر رمضان، فيجاء بالعود من الموضع الذي يكره فقال: وهل يراد من العود إلا ريحه، إن خفي خروجه فاخرج. (فهذا قد يقارب الحرام، فإن القدر الذي يعلق بثوبه من رائحة الطيب قد يبخل به، وقد يقصد ولا يدري أنه يسامح به أم لا، وسئل أحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى (عمن سقط منه ورقة من أحاديث، فهل لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ فقال: لا بل يستأذن ثم يكتب) ، ولفظ القوت: قال أبو بكر المروذي : قلت لأبي عبد الله : رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث وفوائد فأخذتها أن أنسخها وأسمعها قال: لا، إلا أن يأذن صاحبها اهـ .




الخدمات العلمية