الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى هو الذي يشترط التورع عنه في العدالة واطراح سمة الفسق فهو أيضا على درجات في الخبث فالمأخوذ بعقد فاسد كالمعاطاة مثلا فيما لا يجوز فيه المعاطاة حرام ولكن ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر بل المغصوب أغلظ إذ فيه ترك طريق الشرع في الاكتساب وإيذاء الغير .

وليس في المعاطاة إيذاء وإنما فيه ترك طريق التعبد فقط ثم ترك طريق التعبد بالمعاطاة أهون من تركه بالربا وهذا التفاوت يدرك بتشديد الشرع ووعيده وتأكيده في بعض المناهي على ما سيأتي في كتاب التوبة عند ذكر الفرق بين الكبيرة والصغيرة ، بل المأخوذ ظلما من فقير أو صالح أو من يتيم أخبث وأعظم من المأخوذ من قوي أو غني أو فاسق لأن درجات الإيذاء تختلف باختلاف درجات المؤذي فهذه دقائق في تفاصيل الخبائث لا ينبغي أن يذهل عنها فلولا اختلاف درجات العصاة لما اختلفت درجات النار وإذا عرفت مثارات التغليظ فلا حاجة إلى حصره في ثلاث درجات أو أربعة فإن ذلك جار مجرى التحكم والتشهي ، وهو طلب حصر فيما لا حاصر له ، ويدلك على اختلاف درجات الحرام في الخبث ما سيأتي في تعارض المحذورات وترجيح بعضها على بعض حتى إذا اضطر إلى أكل ميتة أو أكل طعام الغير أو أكل صيد الحرم فإنا نقدم بعض هذا على بعض .

التالي السابق


(وأما الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى وهو الذي يشترط التورع عنه في العدالة) ، وهي صفة توجب مراعاتها التحرز عما يخل بالمروءة ظاهرا (أو إطراح اسم الفسوق) عنه، (فهو أيضا على درجات من الخبث) بعضها أشد من بعض (فالمأخوذ بعقد فاسد) في المعاملة (كالمعاطاة مثلا فيما لا يجوز فيه المعاطاة) من غير جريان لفظ الصيغة من العاقدين (حرام) عند الشافعي رضي الله عنه خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه، وقد تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبله (ولكن ليس في درجات المغصوب) أي: المأخوذ غصبا (على سبيل القهر) والغلبة، (بل المغصوب أغلظ) وأشد (إذ فيه) شيئان (ترك طريق الشرع) ; لأن الغصب محرم (في الاكتساب وإيذاء الغير) ; لأن من غصبه حقه الذي بيده فقد آذاه، (وليس في) بيع (المعاطاة إيذاء) للغير، (وإنما فيه ترك طريقة التعبد فقط) بفوات أحد أركان البيع (ثم ترك طريقة التعبد بالمعاطاة أهون) وأخف (من تركه بالربا) ، وإن كان في كل منهما ترك طريق التعبد (وهذا التفاوت) إنما يدرك (بتشديد الشرع) وتغليظه (ووعيده) وزجره (وتأكيده في بعض المناهي) الشرعية (على ما يذكر في كتاب التوبة) إن شاء الله تعالى (عند ذكر الفرق بين الصغيرة والكبيرة، بل) أقول: إن (المأخوذ ظلما) وقهرا (من فقير) محتاج (أو صالح) مسترسل (أو يتيم أخبث وأغلظ من المأخوذ) بالطريقة المذكورة (من قوي) ذي جاه (أو غني) ذي مال (أو فاسق) بين الفسق; (لأن درجات الإيذاء تختلف باختلاف درجات المؤذى) على صيغة اسم المفعول، (فهذه دقائق في تفاصيل الخبائث لا ينبغي) للمريد (أن يذهل) أي: يغفل (عنها) أي: عن دركها (فلولا اختلاف [ ص: 23 ] درجات العصاة) والمذنبين (لما اختلفت درجات النار) ، أي: طبقاتها، والمستعمل في النار الدركات، واستعمال الدرجات فيها من قبيل المشاكلة، (وإذا عرفت مثارات التغليظ) أي: المواضع التي فيها إثارة التغليظ، (فلا حاجة إلى حصره في ثلاث درجات أو أربع) درجات، (فإن ذلك جار مجرى التهكم والتشهي، وهو طلب حصر فيما لا حاصر له، ويدلك على اختلاف درجات الحرام في الخبث ما سيأتي في تعارض المحذورات) مع بعضها، (وترجيح بعضها على بعض) في التناول، (حتى إذا اضطر إلى أكل الميتة أو أكل طعام الغير) من غير إذنه، (أو أكل صيد الحرم) مع ما في كل منها من التشديد والوعيد، (فإنه يقدم بعض هذا على البعض) ، فالضرورات تبيح المحظورات، قال ابن هبيرة في الإفصاح: اختلفوا فيما إذا وجد المضطر ميتة غير ميتة الآدمي وطعاما لقوم ومالك الطعام غائب ، فقال مالك وأكثر أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة : يأكل من مال الغير بشرط الضمان. وقال أحمد وبقية أصحاب أبي حنيفة : يأكل من الميتة، واختلفوا فيما إذا اضطر المحرم إلى أكل الميتة والصيد ، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد : له أن يأكل من الميتة ما يدفع ضرورته ولا يأكل الصيد. وقال الشافعي في أحد قوليه: يذبح الصيد بيده ويأكل وعليه جزاؤه، وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك .




الخدمات العلمية