الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأنكر بعض الناس حال الصوفية فقال له بعض ذوي الدين ما الذي تنكر منهم قال : يأكلون كثيرا .

قال وأنت : أيضا لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون قال ينكحون كثيرا .

قال وأنت أيضا : لو حفظت عينيك وفرجك كما يحفظون لنكحت كما ينكحون .

وكان الجنيد يقول : أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت فالزوجة على التحقيق قوت وسبب لطهارة القلب ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من وقع نظره على امرأة فتاقت إليها نفسه أن يجامع أهله لأن ذلك يدفع الوسواس عن النفس .

وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فدخل على زينب فقضى حاجته وخرج .

وقال صلى الله عليه وسلم : " إن المرأة إذا أقبلت أقبلت بصورة شيطان ، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله معها مثل الذي معها .

"
وقال عليه السلام : " لا تدخلوا على المغيبات وهي التي غاب زوجها عنها فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم " قلنا : ومنك قال : " ومني ، ولكن الله أعانني عليه فأسلم .

"

التالي السابق


( وأنكر بعض الناس حال الصوفية فقال له) أي: للمنكر ( بعض ذوي الدين) ولفظ " القوت ": وسمع بعض العلماء بعض الجهلة يطعن على الصوفية فقال: يا هذا ( ما الذي تنكر منهم) . وفي "القوت ": ما الذي نقصهم عندك ؟ ( قال: يأكلون كثيرا. قال: وإنك أيضا لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون) ، ثم ( قال) : و ( ينكحون) أي: يتزوجون ( كثيرا. قال: وإنك لو حفظت عينك وفرجك كما يحفظون لنكحت كما ينكحون) زاد في "القوت ": وأي شيء أيضا ؟ قال: يسمعون القول. قال: وأنت أيضا لو نظرت كما ينظرون لسمعت كما يسمعون. وفي "القوت " أيضا: وقد سئل بعض العلماء أيضا عن القراء لم يكثرون الأكل ويكثرون الجماع ويحبون الحلاوة ؟ فقال: لأنهم يطول جوعهم ويتعذر عليهم الموجود، فإذا وجدوا الطعام تزودوا منه، وأما الحلاوة فإنهم تركوا شراب الخمر وكثرة لذات النفوس فاجتمعت شهوتهم في الحلاوة، وأما الجماع فإنهم غضوا أبصارهم في الظاهر وضيقوا على نفوسهم في الخواطر فاتسعوا في الحلال من النكاح كما ضيقوا على جوارحهم انتشار الأبصار .

( و) قد ( كان) أبو القاسم ( الجنيد) بن محمد البغدادي -رحمه الله تعالى - ( يقول: أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت) نقله صاحب "القوت "، لأن الجماع يخرج الأخلاط ويخفف الدماغ ويقوي النشاط ويغذي الروح، كما أن القوت يغذي البدن، ( فالزوجة على التحقيق قوت) للأرواح وغذاء للباطن، ( وسبب لطهارة القلب) وخلوصه عن الخواطر الردية، ( ولذلك أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل من وقع بصره على امرأة فتاقت إليها نفسه أن يجامع أهله لأن ذلك يرفع الوسواس عن النفس) قال العراقي : رواه أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري حين مرت به امرأة فوقع في قلبه شهوة النساء، فدخل فأتى بعض أزواجه وقال: " فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال " وإسناده جيد. اهـ .

( وروى جابر) بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- ( أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى امرأة فدخل على زينب) أي: زوجته وهي ابنة جحش - رضي الله عنها - ( فقضى حاجته) كناية عن الجماع ( وخرج وقال: " إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها ") قال العراقي : رواه مسلم والترمذي واللفظ له، وقال: حسن صحيح. اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي كلهم في النكاح بلفظ: " إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه " قوله: " في صورة شيطان " أي في صفته شبه المرأة الجميلة به في صفة الوسوسة والإضلال يعني أن رؤيتها تثير الشهوة وتقيم الهمة فنسبتها للشيطان لكون الشهوة من جنده وأسبابه، والعقل من جند الملائكة .

قال الطيبي: جعل صورة الشيطان ظرفا لإقبالها مبالغة على سبيل التجريد، فإن إقبالها داع للإنسان إلى استراق النظر إليها كالشيطان الداعي للشر، وكذا في حالة إدبارها مع كون رؤيتها من جميع جهاتها داعية إلى الفساد، لكن خصهما بالذكر لأن الإخلال فيهما أكثر، وقدم الإقبال لكونه أشد فسادا لحصول المواجهة به هذا على رواية الجماعة، وأما رواية مسلم والترمذي ففيها الاقتصار على الإقبال فقط، وقوله " فأعجبته " أي: استحسنها لأن غاية رؤية المتعجب منه استحسانه. وقوله: " فليأت أهله " أي: ليجامع حليلته. وقوله: " يرد ما في نفسه " هكذا روي بمثناة تحتية من رد أي: يعكسه ويغلبه ويقهره. ورواه صاحب النهاية فإن ذلك برد ما في نفسه بالموحدة من البرد أرشدهم إلى أن أحدهم إذا تحركت شهوته واقع حليلته تسكينا لها وجمعا لقلبه ودفعا لوسوسة اللعين، وهذا من الطب النبوي .

وقال ابن العربي في شرح الترمذي: هذا حديث غريب المعنى؛ لأن ما جرى له -صلى الله عليه وسلم- كان سرا لم يعلمه إلا الله تعالى فأذاعه عن نفسه تسلية للخلق وتعليما، وقد كان آدميا ذا شهوة لكنه كان معصوما عن الذلة، وما جرى في خاطره حين رأى المرأة أمر لا يؤخذ به شرعا ولا تنقص منزلته، وذلك الذي وجد من الإعجاب بالمرأة هي جبلة الآدمية ثم غلبها بالعصمة فانطفأت وقضى من الزوجة حق الإعجاب والشهوة الآدمية بالاعتصام والعفة. اهـ .

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: " لا تدخلوا على [ ص: 305 ] المغيبات") جمع المغيبة. ( أي: التي غاب زوجها) في جهاد أو تجارة أو غير ذلك، ولو كانت غيبتهم في البلد أيضا من غير سفر، ويدل له ما في حديث الإفك: وذكروا رجلا صالحا ما كان يدخل على أهلي إلا معي يقال: أغابت فهي مغيبة، ( فإن الشيطان) أي: كيده ( يجري من أحدكم مجرى الدم") . وفي رواية: " من ابن آدم " ومجرى إما مصدر أي: يجري مثل جريان الدم في أنه لا يحس بجريه كالدم في الأعضاء، ووجه الشبه شدة الاتصال فهو كناية عن تمكنه من الوسوسة، أو ظرف ليجري. وقوله " من أحدكم " حال منه أي: يجري في مجرى الدم كائنا من أحدكم، أو بدل بعض من أحدكم أن يجري في أحدكم حيث يجري فيه الدم. ( قلنا: ومنك) يا رسول الله؟ ( قال: " ومني، ولكن الله أعانني عليه فأسلم ") . قال العراقي : رواه الترمذي من حديث جابر وقال: غريب، ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو: " لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل واثنان". اهـ .

قلت: لفظ الترمذي: " لا تلجوا " والباقي سواء. ولفظ مسلم " ألا لا يدخلن، إلخ .

وروى البزار الحديث بتمامه عن جابر بلفظ: " لا تدخلوا على هؤلاء المغيبات "، والباقي سواء. وأما قوله: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " روى هذا القدر فقط أحمد والشيخان وأبو داود من حديث أنس، والشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث صفية بنت حيي.




الخدمات العلمية