الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وتلك الحجب أيضا مترتبة ، وتلك الأنوار متفاوتة في الرتب تفاوت الشمس والقمر والكواكب ويبدو في الأول أصغرها ، ثم ما يليه وعليه ، أول بعض الصوفية درجات ما كان يظهر لإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في ترقيه وقال : فلما جن عليه الليل أي : أظلم عليه الأمر رأى كوكبا أي : وصل إلى حجاب من حجب النور فعبر عنه بالكوكب وما أريد به هذه الأجسام المضيئة ؛ فإن آحاد العوام لا يخفى عليهم أن الربوبية لا تليق بالأجسام ، بل يدركون ذلك بأوائل نظرهم فما لا يضلل العوام لا يضلل الخليل عليه السلام والحجب المسماة أنوارا ما أريد بها الضوء المحسوس بالبصر ، بل أريد بها ما أريد بقوله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية ولنتجاوز هذه المعاني فإنها خارجة عن علم المعاملة ، ولا يوصل إلى حقائقها إلا الكشف التابع للفكر الصافي وقل من ينفتح له بابه والمتيسر على جماهير الخلائق الفكر فيما يفيد في علم المعاملة وذلك أيضا مما تغزر فائدته ، ويعظم نفعه ، فهذه الوظائف الأربعة ، أعني : الدعاء والذكر والقراءة والفكر ينبغي أن تكون وظيفة المريد بعد صلاة الصبح بل في كل ورد بعد الفراغ من وظيفة الصلاة ، فليس بعد الصلاة وظيفة سوى هذه الأربع ويقوى على ذلك بأن يأخذ سلاحه ومجنته والصوم هو الجنة التي تضيق مجاري الشيطان المعادي الصارف له على سبيل الرشاد وليس بعد طلوع الصبح صلاة سوى ركعتي الفجر وفرض الصبح إلى طلوع الشمس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يشتغلون في هذا الوقت بالأذكار وهو الأولى إلى أن يغلبه النوم قبل الفرض ولم يندفع إلا بالصلاة فلو صلى لذلك فلا بأس به .

التالي السابق


( وتلك الحجب أيضا مترتبة، وتلك الأنوار متفاوتة في الرتب تفاوت الشمس والقمر والكواكب) اعلم أن الأشياء بالإضافة إلى الحس البصري ثلاثة أقسام: منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة، ومنها ما يبصر بنفسه ولا يبصر به غيره كالأجسام المضيئة، مثل الكوكب وجهة النار إذا لم تكن مشعلة، ومنها ما يبصر بنفسه ويبصر به أيضا غيره كالشمس والقمر والنيران المشعلة كالسراج، والنور اسم لهذا القسم الثالث .

ثم تارة ينطلق على ما يفيض من هذه الأجسام المنيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة، وتارة يطلق على نفس هذه الأجسام المشرقة أيضا؛ لأنها في أنفسها مستنيرة .

وعلى الجملة: فالنور عبارة عما يبصر في نفسه ويبصر به غيره كالشمس، هذا حده وحقيقته بالوضع الأول، ثم إن العقول وإن كانت مبصرة فليست المبصرات كلها عندها على مرتبة واحدة، بل بعضها يكون عندها كأنها حاضرة كالعلوم الضرورية، ومنها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه، بل يحتاج أن ينبه عليه بالتنبيه .

والأنوار السماوية التي منها تقتبس الأنوار الأرضية إن كان لها أن تترتب بحيث يقتبس بعضها من بعض فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور؛ لأنه أعلى رتبة، ومنال ترتيبه في عالم الشهادة لا يدركه الإنسان إلا بأن يفرض ضوء القمر داخلا في كوة بيت، واقعا على مرآة منصوبة على حائط، ومنعكسا منها إلى حائط آخر في مقابلتها، ثم منعطفا منها إلى الأرض، فحيث تستنير منه الأرض فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط، وما على الحائط تابع لما على المرآة، وما على المرآة تابع للقمر، وما في القمر تابع لما في الشمس؛ إذ منها يشرق النور على القمر، وهذه الأنوار الأربعة مرتبة بعضها [ ص: 139 ] أعلى من بعض وأكمل من بعض، ولكل واحد درجة خاصة لا يتعداه. وكذلك الأنوار الملكوتية على هذا الترتيب، وأن المقرب هو الأقرب إلى النور .

وإذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب فاعلم أنها لا تتسلسل إلى غير نهاية، بل ترتقي إلى منبع أول، هو النور لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره، منه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها، فهذا معنى قول المصنف: وتلك الأنوار متفاوتة في الرتب تفاوت الشمس والقمر والكوكب .

( ويبدو في الأول أصغرها، ثم ما يليه، وعلى ذلك أول بعض) العارفين من ( الصوفية درجات ما كان يظهر لإبراهيم -عليه السلام- في ترقيه) في أحوال وصوله ( قال: فلما جن عليه الليل أي: أظلم عليه الأمر) أي: اشتبه ( رأى كوكبا أي: وصل إلى حجاب من حجب النور) التي تقدم ذكرها آنفا ( فعبر عنه بالكوكب) لأنه أصغر الثلاثة، فهو الذي بدا له أولا، وهذا هو مقامه الذي أشرنا إليه في الصنف الرابع من القسم الثالث .

( وما أريد به هذه الأجسام المضيئة؛ فإن آحاد العوام لا يخفى عليهم أن الربوبية لا تليق بالأجسام، بل يدركون ذلك بأول نظرهم) فأول منازل الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال ( فما لا يضلل العوام لا يضلل الخليل -عليه السلام- والحجب المسماة أنوارا) في الحديث المتقدم ( ما أريد بها الضوء المحسوس بالبصر، بل أريد بها ما أريد بقوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية) اعلم أن العالم الملكوتي عالم غيب، والعالم الحسي عالم الشهادة، وهو مرقاة للملكوتي، وبينهما اتصال ومناسبة، ولولا ذلك لانسد طريق الترقي إلى حضرة الربوبية، فلن يقرب من الله أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس، والعالم المرتفع من إدراك الحس والخيال هو الذي يراد به عالم القدس .

ولما كان عالم الشهادة مرقيا إلى عالم الملكوت، وكان سلوك الطريق المستقيم عبارة عن هذا الترقي فلو لم يكن بينهما اتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر، فجعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت، فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال من ذلك العالم، وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من الملكوت، وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة، وله أمثلة لا تحصى .

فإن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبر عنها بالملائكة، تفيض الأنوار على الأرواح البشرية، ولأجلها تسمى أربابا، ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة، فبالحري أن يكون مثالها من عالم الشهادة الشمس والقمر والكوكب، وسالك الطريق ينتهي أولا إلى ما درجته درجة الكوكب، فيتضح له إشراق نوره، ويتضح له من جماله وعلو درجته ما يبادر فيقول: هذا ربي .

ثم إذا اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر رأى أفول الأول في مغرب الهوي، بالإضافة إلى ما فوقه، فقال: لا أحب الآفلين وكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثله الشمس، فيراه أكبر وأعلى، فيراه قابلا للمثال بنوع مناسبة له معه، والمناسبة مع ذي النقص نقص وأفول أيضا، فمنه يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين .

( ولنجاوز هذه المعاني) الدقيقة ( فإنها خارجة عن علم المعاملة، ولا توصل إلى حقائقها إلا بالكشف) الصريح ( التابع للفكر الصافي) عن ظلمة الخيال والوهم ( وقل من يفتح له بابه) لصعوبته ( والمتيسر على جماهير الخلق الفكر فيما يفيد في علوم المعاملة وذلك أيضا مما تغزر) أي: تكثر ( فائدته، ويعظم نفعه، فهذه الوظائف الأربعة، أعني: الدعاء والذكر والقراءة والفكر ينبغي أن يكون وظيفة) السالك ( المريد) في طريق الآخرة ( بعد طلوع الفجر) الثاني ( بل في كل ورد وبعد الفراغ من وظيفة الصلاة، فليس بعد الصلاة وظيفة سوى هذه الأربعة) فليشدد يديه عليها ( ويقوى على ذلك بأن يأخذ سلاحه ومجنته) بكسر الميم، أي: ترسه، وهما مما يقاتل به العدو، ويتحصن من شره .

( والصوم هو الجنة التي تضيق مجاري الشيطان المعادي) في العروق ( الصارف عن سبيل الرشاد) والهداية ( وليس بعد طلوع الصبح) الثاني ( صلاة سوى ركعتي الفجر وفرض الصبح) فقط، أو ركعتي التحية إذا دخل المسجد وكان الوقت متسعا، وكان قد صلى ركعتي السنة في منزله، وذلك ( إلى الطلوع) أي: طلوع الشمس .

( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - [ ص: 140 ] وأصحابه -رضي الله عنهم- يشتغلون في هذا الوقت بالأذكار) .

قال العراقي: تقدم حديث جابر بن سمرة عند مسلم في جلوسه -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر في مجلسه حتى تطلع الشمس، وليس فيه ذكر اشتغاله بالذكر، وإنما هو في قوله كما تقدم من حديث أنس. اهـ .

( فهو الأولى إلا أن يغلبه النوم قبل الفرض ولم يندفع إلا بالصلاة) مثلا ( فلو صلى لذلك فلا بأس به) وتقدم عن صاحب العوارف أنه إن لم يندفع النوم فليقم قبالة القبلة ويرجع خطوات، ولا يستدبر القبلة، ولم يقل: إنه يصلي. والله أعلم .




الخدمات العلمية