الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
آداب الدعاء وهي عشرة .

الأول : أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة ورمضان من الأشهر ويوم الجمعة من الأسبوع ووقت السحر من ساعات الليل قال تعالى وبالأسحار هم يستغفرون وقال صلى الله عليه وسلم : " ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول عز وجل : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟" وقيل : إن يعقوب صلى الله عليه وسلم إنما قال سوف أستغفر لكم ربي ليدعو في وقت السحر فقيل : إنه قام في وقت السحر يدعو وأولاده ، يؤمنون خلفه فأوحى الله عز وجل إني قد غفرت لهم وجعلتهم أنبياء .

[ ص: 31 ]

التالي السابق


[ ص: 31 ] ( آداب الدعاء)

وقد ذكر فيها ما يصلح أن يكون شرطا له، ولم يميز المصنف بين الأدب والشرط هنا كما فعل الحليمي في المنهاج وغيره، ونحن نشير إلى ذلك .

( وهي عشرة) تسعة منها ظاهرة، والعاشر أدب باطني ( الأول: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة) أي: ينظرها له؛ ليكون أقرب إلى الإجابة ببركة تلك الأوقات ( كيوم عرفة) وهو التاسع من ذي الحجة ( من السنة) سواء كان في الموقف أو غيره ( ورمضان من الشهور) أيامه ولياليه ( ويوم الجمعة من الأسبوع) من لدن طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وبعض ساعاته آكد من بعض في الإجابة، كما تقدمت الإشارة إليه في كتاب الصلاة ( ووقت السحر من ساعات الليل) وهو قبيل طلوع الصبح، والجمع أسحار ( قال الله تعالى) في مدح العابدين: ( وبالأسحار هم يستغفرون ) فعلم من ذلك أنه وقت شريف ( ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟") رواه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

وعن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، رفعه: "ينزل الله في كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر" رواه أحمد والدارمي وابن خزيمة وابن السني والطبراني والضياء.

ورواه الحاكم، عن نافع بن جبير، عن أبي هريرة قال حمزة الكناني الحافظ: لم يقل فيه أحد: "عن نافع عن أبيه" غير حماد بن سلمة.

ورواه ابن عيينة فقال: عن نافع عن رجل من الصحابة، وهو أشبه بالصواب، وروى مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حتى يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفرله، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر".

وعند مسلم أيضا: "ينزل الله تبارك وتعالى في السماء الدنيا لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب، أو يسألني فأعطيه، ثم يبسط يديه فيقول: من يقرض غير عديم ولا ظلوم".

وروى الطبراني في الكبير، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- رفعه: "ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، فيقول: ألا عبد من عبادي يدعوني فأستجيب له، ألا ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له، ألا مقتر رزقه، ألا مظلوم يدعوني فأنصره، ألا عان يدعوني فأفك عانته، فيكون كذلك حتى يصبح الصبح، ثم يعلو -عز وجل- على كرسيه".

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- رفعه: "ينزل الله في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، فينظر الله في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينظر في الساعة الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن لا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء والشهداء والصديقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له؟ ألا سائل يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر، وذلك قول الله: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا فيشهده الله وملائكة الليل والنهار".

وعند ابن النجار من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ينزل الله في كل ليلة إلى السماء حين يبقى نصف الليل الآخر، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؛ حتى ينصدع الفجر وينصرف القارئ من صلاة الفجر".

( وقيل: إن يعقوب عليه السلام) وهو الملقب بإسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ( إنما قال لبنيه) وهم اثنا عشر، سبعة منهم أمهم ابنه خالته، كان تزوجها يعقوب -عليه السلام- أولا، وهم: يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى ورويالون ويشحر ودينه، فلما توفيت تزوج أختها راحيا، فولدت له بنيامين ويوسف، وثلاثة آخرين: يقتالى وجاد وآشر من سريتين، اسمهما زلفة وبلهة ( سوف أستغفر لكم ربي ) وذلك لأنهم لما قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين فمن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأله المغفرة، قال: سوف أستغفر لكم ربي أي: ( ليدعو) لهم [ ص: 32 ] ( في وقت السحر) فأخره إلى ذلك الوقت، أو إلى صلاة الليل، أو إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة، أو إلى أن يستحل لهم من يوسف، أو يعلم أنه عفا عنهم، فإن عفو المظلوم شرط المغفرة، كما سيأتي .

( فقيل: إنه قام وقت السحر) مستقبل القبلة، وهو ( يدعو، و) قام ( أولاده يؤمنون خلفه) وقيل: قام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين .

( فأوحى الله إليه أني قد) أجبت دعوتك في ولدك، و ( غفرت لهم وجعلتهم أنبياء) بعده قال البيضاوي: وهذا إن صح فدليل على نبوتهم، وأن ما صدر عنهم كان قبل استنبائهم .

قلت: هنا أقوال، قيل: أخرهم لوقت السحر، وقيل: إلى صلاة الليل، وقيل: إلى ليلة الجمعة، وكل هذه الأقوال مأثورة .

أما الأول: فروي عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا، وعن ابن مسعود. أخرج أبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: لم أخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال: أخرهم إلى السحر؛ لأن دعاء السحر مستجاب.

وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه قال: "أخرهم إلى السحر، وكان يصلي بالسحر".

وأخرج أبو عبيد سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود قال: "إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر".

والقول الثاني: روي عن ابن عباس أيضا، أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عنه، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "في قصة قول أخي يعقوب -عليه السلام لبنيه: سوف أستغفر لكم ربي يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة".

وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وابن مردويه، عن ابن عباس قال: " جاء علي بن أبي طالب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، تفلت هذا القرآن من صدري" وفيه: "إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة، والدعاء فيها مستجاب، وقد قال أخي يعقوب لبنيه: سوف أستغفر لكم ربي يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة" الحديث .

والقول الثالث: رواه ابن جرير وأبو الشيخ، عن عمرو بن قيس في تفسير هذه الآية، قال: في صلاة الليل .

وأما ما ذكره المصنف فقيل: "إنه قام" إلخ، رواه ابن جرير، عن أنس بن مالك، قال: "لما جمع الله يعقوب شمله ببنيه، خلا ولده نجيا، فقال بعضهم لبعض: ألستم قد علمتم ما صنعتم؟ قالوا: بلى، قالوا: فكيف لكم بربكم؟ فاستقام أمرهم أن يأتوا الشيخ، فأتوا، فجلسوا بين يديه، ويوسف إلى جنب أبيه قاعد، فقال: ما لكم يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله، فإذا جاءك من الله بأنه قد عفا عنا اطمأنت قلوبنا، فقام الشيخ: فاستقبل القبلة، وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين، فدعا وأمن يوسف، فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب -عليهما السلام- فقال: إن الله بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب الله دعوتك في ولدك، وأنه قد عفا عما صنعوا، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة".

وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: "كان الله -تبارك وتعالى- عود يعقوب إذا سأله حاجة أن يعطيها إياه في أول يوم، أو في الثاني، أو في الثالث لا محالة، فلما سأل بنو يعقوب أباهم الدعاء قال لهم: إذا كان السحر فلتصبوا عليكم من الماء، ثم البسوا ثيابكم التي تصونونها، ثم هلموا إلي، ففعلوا، فجاؤوا، فقام يعقوب أمامهم، ويوسف خلفه، وهم خلف يوسف، إلى أن طلعت الشمس لم تنزل عليهم التوبة، ثم اليوم الثاني، ثم اليوم الثالث، فلما كانت الليلة الرابعة باتوا، فجاءهم يعقوب فقال: يا بني نمتم والله عليكم ساخط؟! فقوموا، فقام وقاموا عشرين سنة يطلبون إلى الله الحاجة، فأوحى الله إلى يعقوب أني قد تبت عليهم، وقبلت توبتهم، قال: يا رب النبوة؟ قال: قد أخذت ميثاقهم في النبيين".

هذا، ومن الأوقات الشريفة من السنة أيضا: أيام التشريق، ومن الشهور العاشر من المحرم، وأول يوم منه، وآخر يوم من ذي الحجة. ومن الأيام: يوم الاثنين، وعند زوال الشمس، ومن الليالي: بين العشاءين، وجوف الليل، فقد وردت في كل ذلك آثار عن السلف .




الخدمات العلمية