الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء

التالي السابق


وإذا عرفت ذلك فاعلم أن في فضل الدعاء وردت آيات وأخبار وآثار دالة على أنه مطلوب شرعا، والرد على من قال: لا فائدة فيه مع سبق القدر .

أما الآيات ( قال الله عز وجل: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) أي: فقل لهم: إني قريب، ففيه إضمار، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم، واطلاعه على أحوالهم، بحال من كان قريبا مكانه منهم .

وروي أن أعرابيا قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، فنزلت هذه الآية" ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) تقرير للقرب، ووعد للداعي بالإجابة، قرأ أهل المدينة غير قالون وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل، والباقون بحذفها وصلا ووقفا ( فليستجيبوا لي ) إذا دعوتهم للإيمان وللطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .

قال أبو عبد الله الزركشي في كتاب الأزهية: وفي الآية لطائف:

منها: أنه جرت عادة القرآن حيث ورد لفظ السؤال جاء عقبه "قل" كقوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ، يسألونك عن الأنفال قل الأنفال وترك في هذا الموضع لفظ "قل" للإشارة إلى رفع الواسطة بين العبد والرب في مقام الدعاء، وفيه إشعار بالاستجابة الشريفة .

ثانيها: إضافة العبد بياء التشريف يدل على أن العبد له، وقوله: قريب يدل على أن الرب للعبد .

ثالثها: لم يقل: العبد قريب مني بل أنا منه قريب؛ لأن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو لا بد وأن يكون مركز العدم وحضيض الفناء، فكيف يكون قريبا من القريب وهو الحق، فالعبد لا يمكنه القرب من الحق، والحق بفضله وكرمه يقرب إحسانه منه؛ فلهذا قال: فإني قريب ومعنى القرب أنه إذا أخلص في الدعاء، واستغرق في معرفة الله امتنع أن يبقى بينه وبين الحق واسطة، وذلك هو القرب. اهـ .

قلت: وقال الشيخ الأكبر -قدس سره-: الطريق من الحق تعالى إلى الخلق هي على حكم واحد، وقال تعالى: وهو معكم أين ما كنتم وقال تعالى: وهو على كل شيء شهيد لكن إنما الشأن أن يكون لطريقك أنت، به تتصل؛ لأنك أنت محل الحجاب، فإذا زالت الحجب عنك وذهبت الغفلة حينئذ تتصف بالقرب من هذه المرتبة، والمقام الذي هو مقام الصالحين والمقربين، فالقرب إنما هو قرب مخصوص، وكذلك البعد، والذي يتقرب إليه إنما هو مقام السعادة الخاصة التي جاءت بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- انتهى .

وقد تقدم قريبا في بيان معاني الذكر الكلام على القرب والبعد، له شديد تعليق بهذا المقام، فانظره .

( وقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) والمعنى: ادعوا ربكم ذوي تضرع وإخفاء؛ فإن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص، والمعتدون هم المتجاوزون في الدعاء بالإجهار فيه، أو بالسباب، أو بطلب ما لا يقتضيه حاله، وسيأتي الكلام عليه قريبا .

( وقال عز وجل: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) نزلت حين سمع المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الله يا رحمن" فقالوا: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر، والمراد التسوية بين اللفظين؛ فإنهما يطلقان على ذات واحدة، وإن اختلف اعتبار اطلاقهما، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود، والواو للتخيير، والتنوين في "أيا" عوض عن المضاف، و"ما" صلة لتأكيد ما في أي من الإبهام، كان أصل الكلام: وأيا ما تدعوا فهو أحسن، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه، وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام .

( وقال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) قيل: معناه: اعبدوني أثب لكم؛ لقوله: إن الذين يستكبرون عن عبادتي الآية، و داخرين صاغرين، وإن فسر الدعاء بالسؤال؛ لأن الاستكبار الصادر عنه منزل منزلته؛ للمبالغة، والمراد بالعبادة الدعاء .



فإن قيل: ما وجه قوله تعالى: أجيب دعوة الداع إذا دعان وقوله: ادعوني أستجب لكم وقد يدعى كثيرا فلا يجيب؟

قلنا: اختلفوا في معنى الآية الأولى، قيل: معنى الدعاء الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب. وقيل: معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاما، تقديرها: أجيب دعوة الداعي إذا شئت، كما قال تعالى: فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، أجيب دعوة الداع إن وافق القضاء، وأجيبه إن كانت الإجابة خيرا له، وأجيبه إن لم يسأل محالا .

وروى ابن [ ص: 29 ] زنجويه في فوائده، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن أبي هريرة، رفعه، قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل، قالوا: ما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: يقول: قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي، فيتحسر عند ذلك، فيدع الدعاء".

وقيل: هو عام، ومعنى قوله أجيب أي: أسمع، ويقال: ليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة، فأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب دعاء السيد عبده، والوالد ولده، ثم لا يعطى سؤاله، فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوى .

وقيل: معنى الآية: أنه يجيب دعاءك، فإن كان قدر له ما سأل أعطاه وإن لم يقدر له ادخر له الثواب في الآخرة، أو كف عنه سوءا، والدليل عليه ما رواه ابن زنجويه في فوائد من طريق مكحول، عن جبير بن نفير، عن عبادة بن الصامت، رفعه، قال: "ما على الأرض رجل مسلم يدعوه إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم".

وقيل: إن الله يجيب دعوة المؤمن في الوقت، ويؤخر إعطاء مراده؛ ليدعوه، فيسمع صوته، ويعجل إعطاءه من لا يحبه؛ لأنه يبغض صوته .

وقيل: إن للدعاء آدابا وشرائط كما سيأتي ذكرها، وهي أسباب الإجابة، فمن استكملها كان من أهل الإجابة، ومن أخل بها فهو من أهل الاعتداء، فلا يستحق الإجابة .




الخدمات العلمية