الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين وقصر الصلاة وراح إلى الموقف فليقف بعرفة ولا يقفن في وادي عرنة وأما مسجد إبراهيم عليه السلام فصدره في الوادي وأخرياته من عرفة فمن وقف في صدر المسجد لم يحصل له الوقوف بعرفة .

ويتميز مكان عرفة من المسجد بصخرات كبار فرشت ثم .

والأفضل أن يقف عند الصخرات بقرب الإمام مستقبلا للقبلة راكبا وليكثر من أنواع التحميد والتسبيح والتهليل والثناء على الله عز وجل والدعاء والتوبة .

ولا يصوم في هذا اليوم ليقوى على المواظبة على الدعاء .

التالي السابق


(ثم جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين) وهو قول الشافعي وأصحابه وأبي ثور وأصحاب الظاهر وأبي حنيفة وأصحابه وقال مالك : الجمع بينهما بأذانين وإقامتين لكل صلاة أذان وإقامة وقال سفيان الثوري وأحمد : يجمع بينهما بإقامتين لكل صلاة إقامة ولم يذكرا أذانا إلا أن أحمد قال : فإن أذن فلا بأس واعتمد في ذلك على مرسل عطاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعرفة بإقامتين كل صلاة بإقامة وصلى بجمع بإقامتين كل صلاة بإقامة وهذا مرسل لا تقوم به حجة على أنه يمكن الجمع كما سيأتي في الجمع بمزدلفة واختلف أصحاب الشافعي هل كان جمعه صلى الله عليه وسلم بعلة مطلق السفر أو الطويل أو بعلة النسك والظاهر أنه بعلة النسك حتى يجوز للآفاقي والمكي والمزدلفي والعرفي وعلى الأول يجوز للمزدلفي وعلى الثاني لا يجوز لغير الآفافي ولا خلاف بأنه سنة حتى لو صلى كل صلاة وحدها في وقتها جاز ومعنى قول المصنف أي ينزل عن راحلته أو عن منبره فيقيم المؤذنون فيصلي بالناس الظهر ثم يقيم فيصلي بهم العصر على سبيل الجمع هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع رواه الشافعي من حديث إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بلفظ : "ثم أقام بلال [ ص: 368 ] فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر " قال البيهقي : تفرد به إبراهيم وعند أبي حنيفة تجعل الأذان قبل الخطبة الأولى كما في الجمعة إلا أنه لو ترك الخطبة وجمع بين الصلاتين أو خطب قبل الزوال أجزأه وأساء بخلاف الجمعة وفي الهداية فإن صلى بغير خطبة أجزأه لأن هذه الخطبة ليست بفريضة وقال الزيلعي : ولو خطب قبل الزوال جاز لحصول المقصود وفي الهداية يؤذن للظهر ويقيم للظهر ثم يقيم للعصر لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود فيفرد بالإقامة إعلاما للناس ولا يتطوع بين الصلاتين تحصيلا لمقصود الوقوف ولهذا قدم العصر على وقته فلو أنه فعل فعل مكروها وأعاد الأذان للعصر في ظاهر الرواية خلافا لما روي عن محمد لأن اشتغاله بالتطوع أو بعمل آخر يقطع نور الأذان الأول فيعيده للعصر . . أهـ . وفي إطلاق التطوع إيماء إلى أنه لا يصلي سنة الظهر البعدية لكن ذكر في الذخيرة والمحيط أنه يأتي بها وعليه مشى صاحب الكافي فعلى الأول يعاد الأذان وعلى الثاني لا يعاد وظاهر الرواية هو الأول وهو الصحيح ثم إنه لا بد للجمع بين الصلاتين في هذا المكان عند أصحابنا من شرطين : الإمام أو نائبه والإحرام للحج فلو صلى الظهر بلا إحرام أصلا أو مع إحرام العمرة منفردا أو بجماعة ثم أحرم بالحج وصلى العصر في وقت الظهر معه بجماعة أو صلى الظهر مع إحرام الحج بجماعة وصلى العصر في وقت الظهر بدونه منفردا أو بجماعة لا يجمع أي لا يجوز عصره في الصورتين لفقد شرطي الجمع أو أحدهما في الصلاتين ثم إن اشتراط الإمام الأعظم والإحرام بالحج في الصلاتين للجمع بينهما مذهب أبي حنيفة وقال صاحباه : يشترط فيهما الإحرام بالحج فقط لا غير فالمنفرد يجمع عندهما ولا يجمع عنده وقال زفر من أصحابنا يشترط للجمع بينهما الإمام والإحرام بالحج في العصر خاصة فلو صلى الظهر وحده محرما بالحج ثم أدرك الإمام في العصر لا يجمع عند أبي حنيفة لعدم الإمام في الظهر ويجمع عند الثلاثة أما عندهما فلوجود الإحرام فيهما وأما عند زفر فلوجود الإحرام والإمام في العصر ولو صلى الظهر مع الإمام غير محرم ثم أحرم بالحج يجمع عند زفر لما مر ولا يجمع عند الثلاثة أما عند أبي حنيفة فلعدم الإحرام والإمام في الظهر وأما عندهما فلعدم الإحرام فيه ونقل الطرابلسي في المناسك ولو لحق الناس الفزع بعرفات فصلى الإمام وحده الصلاتين جميعا لا يجزئه العصر عنده ولو نفر الناس عن الإمام فصلى وحده الصلاتين إن نفروا بعد الشروع جاز وقبله جاز عندهما واختلف عن أبي حنيفة قيل : يجوز عنده وقيل : لا يجوز . . أهـ . ويقال : الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة لكن في حق غير الإمام لا في حق الإمام نفسه واختاره صاحب المحيط فقولهم بشرط الإمام يعني بشرط أدائهما بالجماعة مع الإمام والله أعلم .

(و) إذا كان مسافرا (قصر الصلاة) هذا هو السنة والمكيون والمقيمون حولها لا يقصرون خلافا لمالك وليقل الإمام إذا سلم : أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر ؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا نقله الرافعي رواه الشافعي وأبو داود والترمذي عن ابن علية عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل إلا ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد : أتموا فإنا سفر " لفظ الشافعي ، وزاد الطبراني في بعض طرقه : إلا المغرب ، ورواه مالك في الموطأ من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم انصرف فقال : يا أهل مكة إنا قوم سفر ثم صلى عمر بمنى ركعتين قال مالك : ولم يبلغني أنه قال لهم شيئا ، قال الحافظ : عرف بهذا أن ذكر الرافعي له في مقال الإمام بعرفة ليس بثابت وكذا نقل غيره أنه يقول : الإمام بمنى ولكن يتمسك بعموم لفظ رواية الطيالسي ومن طريق البيهقي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وفيه : ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين فقال : "يا أهل مكة أتموا الصلاة فإنا قوم سفر " ثم ذكر ذلك عن أبي بكر ثم عن عمر ثم عن عثمان قال : ثم أتم عثمان (وراح إلى الموقف) عقيب الصلاة كما في حديث جابر الطويل عند مسلم والموقف كمجلس موضع الوقوف سواء كان راكبا أو ماشيا ، وقد تقدم حكم ذلك قريبا (فليقف بعرفة) أي موضع وقف فيه منها أجزأه (ولا يقفن في وادي عرنة) لما روي عن ابن عباس رفعه : "عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة " أخرجه الطبراني والحاكم وسبق [ ص: 369 ] قريبا قال الرافعي : فإن قلت : نمرة التي ذكرتم النزول بها هل هي من حد عرفة أو لا ؟ وهل الخطبتان والصلاتان بها أو بموضع آخر ؟ قلنا : أما الأول : فإن صاحب الشامل في طائفة قالوا بأن نمرة موضع من عرفات ولكن الأكثرون نفوا كونها من عرفات فيهم أبو القاسم الكرخي والقاضي الروياني وصاحب التهذيب وقالوا : إنها موضع قريب من عرفات أما الثاني : فإيراد موردين يشعر بأن الخطبتين والصلاة لها لكن رواية الجمهور أنهم ينزلون بها حتى تزول الشمس فإذا زالت ذهب الإمام بهم إلى مسجد إبراهيم -عليه السلام- وخطب وصلى فيه ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى الموقف وهل المسجد من عرفة ؟ سيأتي الكلام عليه وإذا لم تعد البقعة من عرفات فحيث أطلقنا أنهم يجمعون بين الصلاتين بعرفة عنينا به الموقف القريب منها . . أهـ . (وأما مسجد إبراهيم عليه السلام) وجدت بخط الإمام الفقيه الشيخ شمس الدين بن الحريري ما نصه قد وقع للفقهاء في نسبة هذا المسجد لإبراهيم الخليل -عليه السلام- كلام وقد نسبه إليه جماعة منهم ابن كج وابن سراقة والبغوي والقاضي الحسين والأزرقي وتبعهم الشيخ النووي وجماعة من المتأخرين وادعى الأسنوي أنه خطأ وإنما هو شخص اسمه إبراهيم من رؤوس الدولة المتقدمة كما قاله غير الأسنوي فالتبس بالخليل عليه السلام ورد الأذرعي هذا بأن الأزرقي من أعلم الناس بهذا وقد نسبه إلى الخليل -عليه السلام- قال : وعلى تسليم أن يكون قد بناه من ذكر فلا يمتنع أن يكون منسوبا من أصله إلى الخليل عليه السلام- وإما لأنه صلى هناك واتخذ مصلى للناس فنسب إليه . . أهـ .

قال الرافعي : بين الشافعي رحمه الله تعالى حد عرفة فقال : هي ما جاوز وادي عرنة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين بني عامر وليس وادي عرنة من عرفة وهو على منقطع عرفة مما يلي صوب مكة ومسجد إبراهيم عليه السلام (فصدره) من عرنة (في الوادي وأخرياته من عرفة فمن وقف في صدر المسجد لم يحصل له الوقوف بعرفة) قال في التهذيب وثم يقف الإمام للخطبة والصلاة (ويتميز مكان عرفة من المسجد بصخرات كبار فرشت هناك) قال النووي في زوائد الروضة : الصواب أن نمرة ليست من عرفات وأما مسجد إبراهيم عليه السلام فقد قال الشافعي رحمه الله أنه ليس من عرفة فلعله زيد بعده في آخره وبين هذا المسجد وبين موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصخرات نحو ميل قال إمام الحرمين وتطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفة والله أعلم ، وقال المحب الطبري في المناسك : اتفق العلماء على أنه لا موقف إلا عرفة ولا موقف في عرنة واختلفوا إذا خالف ووقف بعرنة فعندنا لا يصح وقوفه وعند مالك يصح حكاه ابن المنذر وعرنة عند مالك من عرفة قال ابن حبيب ومنه مسجد عرفة ، وهو من الحرم وهذا لا يصح بل هو خارج من الحرم والمسجد بعضه في عرنة وبعضه في عرفة قال الشافعي في الأوسط من مناسكه ما جاوز وادي عرنة وليس الوادي ولا المسجد منها إلى الجبال القابلة مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحض وما جاوز ذلك فليس من عرفة حكى ذلك صاحب الشامل وحكى أبو حامد الإسفراييني أن الشافعي قال في القديم : وعرفة ما بين المشرق إلى الجبال القابلة يمينا وشمالا قال أبو حامد : والجبل المشرق جبل الرحمة وحكى القولين صاحب الذخائر وقال في الثاني وهذا موافق للقول الأول وقال صاحب البيان : حد عرفة من الجبل المشرف على جبل عرفة إلى أجبال عرفة إلى وصيق إلى ملتقى وصيق إلى وادي عرنة ووصيق بصاد مهملة وقاف كأمير والحض بفتح الحاء والضاد المعجمة اسم جبل وقال أبو زيد البلخي : عرفة ما بين وادي عرنة إلى حائط ابن عامر إلى ما أقبل على الصخرات التي يكون بها موقف الإمام إلى طريق حض وقال حائط ابن عامر عند عرنة وبقربه مسجد الإمام الذي يجمع فيه الصلاتين وهو حائط نخل وفيه عين ينسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز قال الطبري : وهو الآن خراب وهذا المسجد يقال له : مسجد إبراهيم ويقال له : مسجد عرنة بالنون وضم العين كذلك قيده ابن الصلاح في منسكه والمتعارف فيه عند أهل مكة وتلك الأمكنة مسجد عرفة بالفاء قال وحدد بعض أصحابنا عرفة فقال : الحد الواحد منها ينتهي إلى جادة طريق المشرق وما يلي الطريق والحد الثاني ينتهي إلى حافات [ ص: 370 ] الجبل الذي وراء عرفات والحد الثالث ينتهي إلى الحوائط التي تلي قرية عرنة وهذه القرية على يسار مستقبل القبلة إذا صلى بعرفة والحد الرابع ينتهي إلى وادي عرنة قال : واختلف في تسمية ذلك الموضع عرفة فقيل : لأن جبريل -عليه السلام- قال لإبراهيم -عليه السلام- في ذلك الموقف بعد فراغه من تعليم المناسك : عرفت ؟ قال : نعم وقيل : لأن حواء وآدم -عليهما السلام- اجتمعا فيه وتعارفا وقيل : لأن الناس يتعارفون فيه وقيل : لأنهم يعترفون فيه بذنوبهم وقيل : لأن الله عز وجل يعرفهم البركة والرحمة فيه إذا تقرر ذلك فهل تلك المواضع وجبلها من عرفة وليس وادي عرنة منها وهما ما يلي مكة في طرف عرفات يقطعه من يجيء من مكة إلى عرفة ومسجد صدره في الوادي وأخرياته في عرفة وإن ثبت قول ابن عباس : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات خطبة في بطن الوادي " كان ذلك حجة لمالك أن عرنة من عرفة إلا أنه يحتمل أنه قال ذلك بالموقف وأي موضع وقف فيه من عرفة أجزأه والأولى أن لا يقف على سنن القوافل وهي تنصب في عرفة فيتأذى بها وينقطع عليه الدعاء وأن يبعد عن كل موضع يتأذى فيه أو يؤذي أحدا وحسن أن يجمع بين المواقف كلها فيقف ساعة في سهلها وساعة في جبلها (والأفضل أن يقف عند الصخرات بقرب الإمام) وأن يكون موقف الإمام من وراء ظهره عن يمينه فإن بعد منه فلا بأس إذا كان بعرفة لما أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن يزيد بن سنان أنهم كانوا في موقف بعرفة بعيد من موقف الإمام فإذا هم بابن مريع الأنصاري فقال لهم : إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم قال الترمذي : حديث حسن وابن مريع اسمه يزيد والمراد قفوا بعرفة خارج الحرم فإن إبراهيم -عليه السلام- هو الذي جعلها مشعرا وموقفا للحاج فهي كلها موروثة عنه وأنتم على حظ منها حيث كنتم وأخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يقف بين يدي الموقف بعرفات ومن تمكن من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأولى أن يلازمه وقد روى أبو الوليد الأزرقي بإسناده عن ابن عباس أن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين الأجبل الثلاثة : النبعة والنبيعة والنابت ، وموقفه صلى الله عليه وسلم منها على النابت قال : والنابت على النشزة التي خلف موقف الإمام وموقفه صلى الله عليه وسلم على ضرس من الجبل النابت مضرس بين أحجار هناك نابتة من الجبل الذي يقال له : "إلال " ككتاب ، قال المحب الطبري وعلى هذا يكون موقفه صلى الله عليه وسلم على الصخرات الكبار المفترشة في طرف الجبيلات الصغار التي كأنها الروابي عند الجبل الذي يعتني الناس بصعوده ويسمونه جبل الرحمة واسمه عند العرب "إلال " بالكسر وذكر الجوهري فيه الفتح والمحفوظ خلافه وهذا يرجح ضبط من ضبط قول جابر في حديثه الطويل وجعل جبل المشاة بين يديه بالجيم فإن الواقف كما وصفناه يكون هذا الجبل أعني "إلالا " بين يديه وهو جبل المشاة وذكر ابن حبيب أن "إلالا " جبل من الرمل يقف الناس به بعرفات عن يمين الإمام حكاه عنه أبو عمر وعثمان بن علي الأنصاري في تعاليقه على الجوهري وذكر ابن أبي الصيف في بعض تعاليقه على الجوهري أن اسم جبل الرحمة الذي يقال له : جبل المشاة كبكب قال المحب الطبري : والمشهور في كبكب أنه اسم جبل بأعلى نعمان بقرب الثنايا عنده قوم يدعون الكباكبة نسبة إليه والمشهور في جبل الرحمة ما ذكرناه إذا تقرر هذا فمن كان راكبا ينبغي أن يلابس بدابته الصخرات المذكورة كما روي عنه صلى الله عليه وسلم ومن كان راجلا وقف عليها أو عندها بحسب ما يتمكن من غير إيذاء أحد ولا يثبت في الجبل الذي يعتني الناس بصعوده خبر ولا أثر قال : وذكر شيخنا أبو عمرو بن الصلاح في منسكه عن صاحب الحاوي أنه يقصد الجبل الذي يقال له : جبل الدعاء وهو موقف الأنبياء -عليهم السلام- وعن محمد بن جرير الطبري أنه يستحب الوقوف على الجبل الذي عن يمين الإمام يعني جبل الرحمة والذي ذكره صاحب الحاوي لا دلالة فيه على إثبات فضله لهذا الجبل فإنه قال : والذي نختار في الموقف أن يقصد نحو الجبل الذي عند الصخرات السود وهو [ ص: 371 ] الجبل الذي يقال له : جبل الدعاء وهو موقف الأنبياء -عليهم السلام- والموقف الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو من الأجبل الثلاثة على النابت ثم ساق ما أوردناه سابقا ثم قال : وهذا أحب المواقف إلينا للإمام والناس ، قال المحب الطبري : وهذا صريح في أنه أراد بجبل الدعاء النابت الذي وقف عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تعرض في كلامه لجبل الرحمة بنفي ولا إثبات وما فهمه -رحمه الله- أنه جبل الرحمة غير مطابق وقوله : وهو الجبل أراد سهله ، وهو من الأضداد ويطلق على المكان المرتفع المنخفض والنبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف عليه لكونه موقف الأنبياء عليهم السلام وكلام ابن جرير ظاهر الدلالة أنه أراد بالجبل الذي عن يمين الإمام الجبل الذي وقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو النابت كما تقدم بيانه والظاهر أنهما أراداه بقولهما فيكونان قد أثبتا له شيئا من الفضل ولا نعلم من أين أخذا ذلك إذ لم يثبت في فضله خبر ولو ثبت له فضل فموقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل منه وهو الذي خصه العلماء بالذكر والفضل ثم قال الطبري نقلا عن صاحب النهاية : في وسط عرفة جبل يقال له جبل الرحمة ولا نسك في الرقي عليه وإن كان يعتاده الناس ، وقال غيره : قد افتتنت العامة بهذا الجبل في زماننا وأخطؤوا في أشياء منها جعلوا الجبل هو الأصل في الوقوف فهم بذكره لهجون وعليه دون غيره معرجون حتى ربما اعتقد بعض العامة أن الوقوف لا يصح بدون الرقي ومنها احتفالهم بالوقوف عليه قبل وقت الوقوف ومنها إيقادهم النيران عليه ليلة عرفة واهتمامهم لذلك باستصحاب الشموع من بلادهم واختلاط النساء بالرجال هنالك صعودا وهبوطا بالشمع الكثير الموقد وإنما حدث ذلك بعد انقراض السلف الصالح ومن كان متبعا آثار النبوة فلا يحصل بعرفة قبل دخول وقت الوقوف يأمر بذلك ويعين عليه وينهى عن مخالفته . . أهـ . (مستقبلا القبلة راكبا) اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نص الشافعي في القديم وبه قال أحمد ونص في الأم على أن لا مزية للراكب على الراجل وفيه قول ثالث الراجل أفضل وهذا أظهرها فمن كان قويا لا يضعف بسبب ترك الركوب عن الدعاء ولا يكون ممن ينبغي أن يركب ليظهر فيقتدى به وعلى أي حال وقف أجزأه أخرج النسائي عن أسامة بن زيد قال : كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- . . . الحديث .

وأخرج أحمد عن ابن عباس قال : أفاض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عرفة وردفه أسامة . . . الحديث ، وقال أصحابنا ولو وقف على قدميه جاز لكن الأفضل أن يقف على ناقته لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عليها وهو في حديث جابر أيضا وأما استقبال القبلة فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف كذلك كما في حديث جابر وروى الطبراني وأبو يعلى وابن عدي عن ابن عمر رفعه : "أكرم المجالس ما استقبل به القبلة " ، وعند أبي نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ : "خير المجالس " وعند أبي داود والحاكم وابن عدي والعقيلي عن ابن عباس رفعه : "إن لكل شيء شرفا وإن شرف المجالس ما استقبل به القبلة " (وليكثر من أنواع التحميد والتهليل والتسبيح والثناء على الله عز وجل والدعاء والتوبة) والتضرع والابتهال والبكاء وهنالك تسكب العبرات وتستقال العثرات وتنجح الطلبات فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الدعاء في هذا الموقف أخرج أبو ذر الهروي عن ابن عباس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة بالموقف ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين وروى مالك في الموطأ من مرسل طلحة بن عبد الله بن كريز أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له " وروي عن مالك موصولا ذكره البيهقي وضعفه وكذا ابن عبد البر في التمهيد وسيأتي لذلك مزيد بيان قريبا (ولا يصوم في هذا اليوم ليقوى على المواظبة على الدعاء) أخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة في الحج وكان يقول يوم اجتهاد وعبادة ودعاء وأخرج أحمد والنسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب " قال الترمذي حديث صحيح وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال : حججت [ ص: 372 ] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصمه -يعني يوم عرفة- ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه وأنا فلا أصومه ولا أنهى عنه ، وأخرجه سعيد بن منصور وزاد ومع عثمان فلم يصمه ثم ذكر ما بعده .

وأخرج سعيد بن منصور عن سالم بن عبد الله سأله رجل أما أنت صائم ؟ فقال : لا أصوم هذا اليوم ولا كان عبد الله بن عمر يصومه ولا كان أحد من آبائي يصومه .

وأخرج سعيد بن منصور وأبو ذر الهروي عن ابن عباس أنه أفطر بعرفة فأتى برمان فأكله وقال حدثتني أم الفضل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفطر بعرفة فأتيته بلبن فشربه فهذه الأحاديث تدل على استحباب الفطر أو كراهة الصوم يوم عرفة بعرفة فيحمل ما جاء في الترغيب على من لم يكن حاجا.




الخدمات العلمية