الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان إن رد عليه شيء من علمه أو تهون بشيء من حقه غضب فذلك في الدرك الثاني من النار .

ومن العلماء من يجعل علمه وغرائب حديثه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلا فذلك في الدرك الثالث من النار .

ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطأ والله تعالى يبغض المتكلفين فذلك في الدرك الرابع من النار .

ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغرز به علمه ، فذلك في الدرك الخامس من النار .

ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلا وذكرا في الناس فذلك في الدرك السادس من النار .

ومن العلماء من يستفزه الزهو والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذلك في الدرك السابع من النار .

فعليك يا أخي بالصمت فيه تغلب الشيطان وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب .

وفي خبر آخر إن العبد لينشر له من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة وروي أن الحسن حمل إليه رجل من خراسان كيسا بعد انصرافه من مجلسه فيه خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب من رقيق البز وقال يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة فقال الحسن عافاك الله تعالى ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة ولا خلاق له .

وعن جابر رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة .

وقال تعالى فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن الآية فعرف أهل العلم بإيثار الآخرة على الدنيا .

التالي السابق


( ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من علمه أو تهون بشيء من حقه غضب فذلك في الدرك الثاني من النار ومن العلماء من يجعل علمه وغرائب حديثه) ولفظ القوت من يجعل حديثه في غرائب علمه ( لأهل الشرف واليسار) أي: النعمة ( ولا يرى أهل الحاجة) أي: الاحتياج والفقر ( له) أي: لاستماع حديثه ذاك ( أهلا فذلك في الدرك الثالث من النار ومن العلماء من ينصف نفسه للفتوى) وفي القوت للفتيا ( فيفنى بالخطأ والله) عز وجل ( يبغض المتكلمين فذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغريه علمه، فذلك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلا وذكرا في الناس) أي: شهرة ( فذلك في الدرك السادس من النار ومن العلماء من يستفزه) أي: يحمله ( الزهو) أي: التكبر ( والعجب فإن وعظ) غيره ( عنف) في وعظه ( وإن وعظ أنف) أي: استكبر عن قبول وعظه ( فذلك في الدرك السابع من النار عليك بالصمت فيه) أي: بالصمت ( تغلب الشيطان وإياك أن تضحك من غير عجب) وقد يروى عن معاذ من المقت الضحك من غير عجب ( أو تمشي في غير أرب) أي: حاجة هكذا أورده بطوله صاحب القوت .

قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم الأصبهاني، قال حدثنا أبو الهيثم أحمد بن محمد الكندي، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا جبارة بن المفلس، حدثنا مندل بن علي عن أبي نعيم السامي عن محمد بن زياد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من فتنة العالم فكره، وقال فإن رد عليه شيء من قوله، وقال: من يجعل حديثه وغرائب علمه، وقال من يتعلم من اليهود والنصارى وجبارة بن المفلس ومندل بن علي ضعيفان وأبو نعيم السامي مجهول، ومحمد بن زياد الحمصي لم يدرك معاذا، ورواه الديلمي أيضا فيه من رواية خالد بن يزيد بن أبي الهيثم المقري، عن مندل بن علي مثله، وخالد بن يزيد ثقة، احتج به البخاري، ورواه ابن الجوزي في الموضوعات وهذا الكلام معروف من قول يزيد بن أبي حبيب، رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق في الباب الثاني منه اهـ .

قلت: أخرجه ابن الجوزي فقال: أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ أنبأنا الحسن بن أحمد الفقيه، أخبرنا محمد بن أحمد الحافظ، أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي، حدثنا جعفر الصائغ حدثنا خالد بن يزيد أبو الهيثم، حدثنا جبارة بن مفلس فذكره فقول العراقي: ورواه ابن الجوزي في الموضوعات أي من رواية خالد بن يزيد عن مندل بن علي، كما يعطيه ظاهر سياقه فيه نظر، وقال ابن الجوزي خالد كذاب وجبارة ومندل ضعيفان اهـ .

وقال الذهبي في الديوان: خالد بن يزيد أبو الهيثم المكي، قال أبو حاتم: كذاب فينظر هذا مع قول العراقي، إنه ثقة واحتج به البخاري وقوله أيضا محمد بن زياد الحمصي لم يدرك معاذا، قد جاء وصفه بالسلمي وعده الذهبي في المجاهيل، وقوله: وهذا الكلام معروف من قول يزيد بن حبيب إلخ .

قلت: وقد روي من طريق يزيد بن أبي حبيب مرفوعا وموقوفا أما مرفوعا فقد أخرجه ابن مردويه فقال حدثنا أحمد بن عبد الله حدثنا علي بن الحسن حدثنا أبو الأزهر النيسابوري حدثنا فردوس الكوفي حدثنا طلحة بن رجاء الحمصي عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي يوسف المعافري عن معاذ فذكره بمعناه موقوفا قاله ابن الجوزي أي موقوفا على معاذ ثم قال: باطل طلحة متروك قلت: لم أر له ذكرا في ديوان الضعفاء للذهبي وشيخه عمرو بن الحارث بن الضحاك الزبيدي بالضم الحمصي مقبول من السابعة أخرج له البخاري في [ ص: 367 ] التاريخ وأبو داود قال الحافظ السيوطي في اللآلئ المصنوعة أخرج له المرهبي في فضل العلم قال: أخبرنا أبي قراءة عليه حدثنا جبارة به فزالت تخمة خالد ثم قال وأخرجه ابن المبارك في الزهد، قال: أخبرنا رجل من أهل الشام عن يزيد بن أبي حبيب قال إن فتنة العالم فذكره موقوفا على يزيد وأخرجه ابن عبد البر في العلم من طريق ابن المبارك ثم قال: روى مثل قول يزيد بن أبي حبيب، هذا كله من أوله إلى آخره عن معاذ بن جبل من وجوه منقطعة اهـ .

( وفي خبر آخر أن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة) هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي، لم أجد له أصلا بهذا اللفظ وفي الصحيحين من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اهـ .

قلت: قد تقدم في أول الكتاب عند ذكره حديث أن من العلم كهيئة المكنون ما ذكره الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في ترجمة شيخه عتيق نقلا عن قضيب البان الموصلي، أنه قال من الرجال من يرفع صوته ما بين المشرق والمغرب ولا يسوى عند الله جناح بعوضة ( وروي أن) ونص القوت: وروينا عن ( الحسن) هو البصري أنه ( انصرف) يوما ( من مجلسه) الذي كان يذكر فيه ( فحمل إليه رجل من خراسان) ونص القوت فاستأذن عليه رجل من أهل خراسان فوضع بين يديه ( كيسا فيه خمسة آلاف درهم و) أخرج من حضنه رزمة فيها ( عشرة أثواب من رقيق البز) أي: بز خراسان فقال الحسن ما هذا ( فقال يا أبا سعيد هذه نفقة) وأشار إلى الدراهم ( وهذه كسوة) وأشار إلى الرزمة ( فقال) له ( الحسن عافاك الله ضم إليك كسوتك ونفقتك) .

وفي القوت بتقديم نفقتك ( فلا حاجة لنا بذلك) وفي القوت لا حاجة بلا فاء ( أنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عز وجل يوم القيامة) وفي القوت يوم يلقاه ( ولا خلاق له) أي: لا حظ له ولا نصيب له ( وروي عن جابر) بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه ( موقوفا) عليه ( ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونص القوت وروينا عن شقيق بن إبراهيم عن عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفته أنا على جابر ( أنه قال: لا تجلسوا عند كل عالم إلا عالما يدعوكم من خمس) خصال ( إلى خمس) خصال يدعوكم ( من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة) .

قال العراقي رواه أبو نعيم في الحلية من رواية شقيق عن عباد عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجلسوا مع كل عالم فذكره وقدم العداوة ثم الكبر على الرياء وآخرها من الرغبة إلى الرهبة وعباد بن كثير البصري نزيل مكة كان رجلا صالحا ولكنه متروك قاله النسائي وغيره وشقيق أحد الزهاد العباد من أهل المجاهدة والجهاد قال صاحب الميزان منكر الحديث ثم قال: لا يتصور أن نحكم عليه بالضعف لأن النكارة من جهة الرواة عنه اهـ .

قلت: نص أبي نعيم في الحلية أسند شقيق عن جماعة فمما يعرف بمفاريده ما حدثنا أبو القاسم زيد بن علي بن أبي بلال حدثنا علي بن مهرويه، حدثنا يوسف بن حمدان حدثنا أبو سعيد البلخي حدثنا شقيق بن إبراهيم الزاهد حدثنا عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ثم أبو سعيد اسمه محمد بن عمرو ابن حجر ورواه أيضا أحمد بن عبد الله عن شقيق حدثناه أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد الإدريسي حدثنا أحمد بن نصر الأعمش البخاري، حدثنا سعيد بن محمود حدثنا عبد الله بن محمد الأنصاري، حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا شقيق بن إبراهيم الزاهد عن عباد بن كثير مثله رواه يحيى بن خالد المهلبي عن شقيق فحالفهما حدثناه أبو سعد الإدريسي حدثنا محمد بن الفضل القاضي بسمرقند حدثنا محمد بن زكريا الفارسي ببلخ حدثنا يحيى بن خالد حدثنا شقيق حدثنا عباد عن أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وفي هذا الحديث كلام كان شقيق كثيرا ما يعظ به أصحابه والناس فوهم فيه الرواة فرفعوه وأسندوه اهـ كلام أبي نعيم.

قلت: قال الحافظ السيوطي نقلا عن اللسان أحمد بن عبد الله هو الجويباري أحد الكذابين ثم [ ص: 368 ] قال العراقي: ورواه ابن الجوزي في الموضوعات ثم قال: ليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر كلام أبي نعيم المذكور اهـ .

قلت: وقد وجدت لهذا الحديث طريقا آخر قال السيوطي قال ابن النجار في تاريخه أخبرنا أبو القاسم الأزجي عن أبي الرجاء أحمد بن محمد الكسائي، قال كتب إلي أبو نصر عبد الكريم بن محمد الشيرازي حدثني أبو القاسم عمر بن محمد بن خزيم الخويبي حدثنا أبو بكر عمر بن يمني بن عيسى الخويبي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن هلال الخويبي، حدثنا أبو يوسف يعقوب بن نعيم البغدادي، حدثنا يحيى بن محمد بن أعين المروزي، حدثنا شقيق بن إبراهيم البلخي، أخبرنا عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا لا تقعدوا مع كل ذي علم إلا عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس من الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى المحبة ومن الجهل إلى العلم، ومن الغنى إلى التقلل، ووجدت له طريقا آخر من طريق أهل البيت قال السيوطي، وقال العسكري، في المواعظ حدثنا الحسن بن علي بن عاصم، حدثنا الهيثم بن عبد الله حدثنا علي بن موسى الرضي، حدثني أبي عن أبيه جعفر عن أبيه محمد، عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقعد إلا إلى عالم يدعوك من الخمس إلى الخمس من الرغبة إلى الزهد، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الكبر إلى التواضع ومن المداهنة إلى المناصحة، ومن الجهل إلى العلم اهـ .

فبهذه الطرق يتقوى جانب الرفع في حديث شقيق ( وقال) الله ( تعالى) في كتابه العزيز في قصة قارون ( فخرج ) أي: قارون ( على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ) وهو علم القلوب والمشاهدات الذي هو نتيجة التقوى وعلم المعرفة واليقين الذي هو مزيد الإيمان وثمرة الهدى ( ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ) ثم قال ولا يلقاها إلا الصابرون أي لا يلقى هذه الحكمة إلا الصابرون عن زينة الدنيا التي خرج فيها قارون ( فعرف) الله عز وجل ( أهل العلم) المشار إليهم ( بإيثار الآخرة على الدنيا) والزهد فيها والاستصغار لها ووصفهم بعمل الصالحات للإيمان بها كما وصف أهل الدنيا بالرغبة فيها والاستعظام لها .




الخدمات العلمية