(الفصل الحادي والعشرون)
وهو خاتمة الفصول: في الاعتذار عن المصنف في إيثاره الرخصة والسعة في النقل والرواية في كتابه هذا من الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم الآثار عن الأصحاب، وعن التابعين وتابعيهم، ثم عمن بعدهم من متقدمي السلف، فإنه يتفق له في سياقه مخالفة الألفاظ، والتقديم والتأخير، والزيادة والنقص، مع موافقة المعنى، ولم يعتبر -رحمه الله تعالى- في بعض المواضع ألفاظ الأخبار والآثار؛ إذ لم يكن تحرير الألفاظ عنده واجبا إذا أتى بالمعنى بعد علمه بتصريف الكلام، وبتفاوت وجوه المعاني واجتنابه لما يكون به تحريف أو إحالة بين لفظتين .
وقد رخص في جماعة، منهم سوق الحديث بالمعنى دون سياقه على اللفظ علي وابن عباس وأنس بن مالك، وأبو الدرداء، وواثلة بن الأسقع، -رضي الله عنهم- ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة وأبو هريرة ثم الحسن البصري، الشعبي، وعمرو بن دينار، وإبراهيم النخعي، ومجاهد وعكرمة، نقل ذلك عنهم في كتب سيرهم بأخبار مختلفة الألفاظ .
وقال كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة . ابن سيرين:
وكذلك اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من يرويه تاما، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصرا، وبعضهم يغاير بين اللفظين، ويراه واسعا، إذا لم يخالف المعنى، وكلهم لا يتعمد الكذب، وجميعهم يقصد الصدق ومعنى ما سمع؛ فلذلك وسعهم، وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمده .
وقد روي عن عمران بن مسلم قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنك تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقا، وأجود تحبيرا، وأفصح به لسانا منه إذا حدثنا به، فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك .
وقد قال كان النضر بن شميل: هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة -يعني بالإعراب- وكان النضر نحويا .
وكان سفيان يقول: إذا رأيتم الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فاعلم أنه يقول: اعرفوني، قال: وجعل رجل يسأل عن حرف في الحديث على لفظه، فقال له يحيى بن سعيد القطان يحيى: يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى، قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد .
وفي شرح التقريب للحافظ السيوطي في النوع السادس والعشرين في الفرع الرابع منه ما نصه -مع بعض اختصار-: إن لم يكن الراوي عالما بالألفاظ خبيرا بما يحيل معانيها لم تجز له الرواية لما سمعه بالمعنى، بلا خلاف، بل يتعين اللفظ الذي سمعه، فإن كان عالما بذلك فقالت طائفة من أهل الحديث والفقه والأصول: لا يجوز إلا بلفظه، وإليه ذهب ابن سيرين وثعلب، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وروي عن وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف منهم الأئمة الأربعة: يجوز بالمعنى في جميع ذلك إذا قطع بأداء المعنى; لأن ذلك هو الذي يشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه روايتهم اللفظة الواحدة بألفاظ مختلفة . ابن عمر،
وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه في معرفة الصحابة، ابن منده في الكبير من حديث والطبراني عبد الله بن سليمان بن أكثم الليثي قال: قلت: فذكر ذلك "يا رسول الله، إني إذا سمعت منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفا، فقال: إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا، وأصبتم المعنى فلا بأس" للحسن فقال: لولا هذا ما حدثنا، وقد استدل لذلك بحديث الشافعي "أنزل القرآن على سبعة أحرف".
وروى عن البيهقي قال: دخلت أنا مكحول وأبو الأزهر على فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس فيه وهم، ولا تزيد، ولا نسيان، فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا؟ فقلنا: نعم، وما نحن له بحافظين جدا، إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظا [ ص: 49 ] وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عسى أن لا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى . واثلة بن الأسقع
وأسند أيضا في المدخل عن قال: قال جابر بن عبد الله إنا قوم عرب، نورد الحديث فنقدم ونؤخر . حذيفة:
وأسند أيضا عن شعيب بن الحجاب قال: دخلت أنا وعبدان على الحسن، فقلنا: يا أبا سعيد، الرجل يحدث بالحديث فيزيد فيه أو ينقص منه، قال: إنما الكذب من تعمد ذلك .
وأسند أيضا عن قال: سمعت جرير بن حازم، الحسن يحدث بأحاديث الأصل واحد والكلام مختلف .
وأسند عن ابن عون قال: كان الحسن وإبراهيم يأتون بالحديث على المعاني . والشعبي
وأسند عن أويس، قال: سألنا عن التقديم والتأخير في الحديث، فقال: هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث، وإذا أصيب معنى الحديث فلم يحل به حراما ولم يحرم به حلالا فلا بأس. ونقل ذلك الزهري سفيان عن عمرو بن دينار.
وأسند عن قال: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. اهـ ما تعلق الغرض به . وكيع،
وقوله في أول سياقه: "منهم الأئمة الأربعة" أي أئمة المذاهب، والمشهور عن إمامنا الأعظم -رحمه الله تعالى- عند الأصحاب أنه لا يجوز نقل الحديث إلا باللفظ دون المعنى، قالوا: وبهذا الاعتبار قلت روايته للحديث . أبي حنيفة
وروينا عن الإمام أنه قال: حدثنا أبي جعفر الطحاوي ابن شعيب، حدثنا أبي، قال: أملى علينا قال: قال أبو يوسف -رضي الله عنه-: لا ينبغي للرجل أن يحدث من الحديث إلا بما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به، وهكذا ذكره أبو حنيفة الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام من تاريخه عن عنه، فافهمه؛ فإن إطلاقه في العبارة ربما يوهم خلاف ما ذكرناه . أبي يوسف
وإليه ذهب من المالكية حيث قال فيما نقله القاضي عياض السيوطي في شرح الكتاب المذكور: ينبغي سد باب الرواية بالمعنى; لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن، كما وقع للرواة كثيرا قديما وحديثا. وعلى الجواز الأولى إيراد الحديث بلفظه دون التصرف فيه .
ثم إن المصنف قد روى في كتابه هذا مراسيل ومقاطيع، ومنها ما في سنده مقال، وربما كان المقطوع والمرسل أصح من بعض المسند؛ إذ رواه الأئمة، وجاز لهم رسم ذلك في الورع لمعان:
أحدها يقول: إنا لسنا على يقين من باطلها .
والثاني يقول: إن معنا حجة بذلك، وهو رواية أصحاب الحديث له، وهم قد سمعوه، فإن أخطئوا الحقيقة عند الله تعالى فذلك ساقط عنهم .
والثالث يقول: إن بل فيهما ما يدل عليها . الأخبار الضعاف غير مخالفة للكتاب والسنة، فلا يلزمنا ردها،
والرابع يقول: إنا منهيون عن كثير من الظن . متعبدون بحسن الظن،
والخامس يقول: إنه لا يتوصل إلى حقيقة ذلك إلا من طريق المعاينة، ولا سبيل إليها، فاضطررنا إلى التقليد والتصديق لحسن الظن بالنقلة مع ما تسكن إليه قلوبنا، وتلين له أبشارنا، ونرى أنه حق كما جاء في الخبر .
ويقول أيضا: إنه ينبغي أن نعتقد في سلفنا المؤمنين أنهم خير منا، ثم يقول: نحن لا نكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا على التابعين، فكيف يظن بهم أن يكذبوا، وهم فوقنا؟!
على أنه قد جاءت أحاديث ضعاف بأسانيد صحاح، فكذلك يصلح أن ترد أحاديث صحاح بسند ضعيف؛ لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح؛ إذ لم نحط بجملة العلم، أو لأن بعض ما تضعف به رواه الحديث، وتعطل به أحاديثهم لا يكون تعليلا ولا جرحا عند الفقهاء، ولا عند العلماء بالله تعالى، مثل أن يكون الراوي مجهولا لإيثاره الخمول، وقد ندب إليه، أو لقلة الأتباع له؛ إذ لم يقسم لهم الأثرة عنه، أو ينفرد بلفظ أو حديث حفظه أو خص به دون غيره من الثقات، أو يكون غير سائق للحديث على لفظه، أو لا يكون معنيا بدرسه وحفظه، أو يسمع منه كلام لا يجرحه عند الفقهاء علله به بعض المجرحين من الرواة، وإن بعض من يضعفه أصحاب الحديث هو من علماء الآخرة، ومن أهل المعرفة بالله تعالى، وله في الرواية والحديث مذهب غير طريقة بعض أصحاب الحديث، فيعمل في روايته بمذهبه فلا يكون أصحاب الحديث حجة عليه بل هو حجة عليهم؛ إذ ليس هو عند أصحابه من العلماء دون أصحاب الحديث، فمن ضعفه إذ رأى غير مذهبه .
[ ص: 50 ] وقد يتكلم بعض الحفاظ كابن الجوزي وأضرابه بالإقدام والجراءة، فيجاوز الحد في الجرح، ويتعدى في اللفظ، ويكون المتكلم فيه أفضل منه، وعند العلماء بالله تعالى أعلى درجة، فيعود الجرح على الجارح، وإن بعض من يضعفه أهل الحديث يقويه بعضهم، وبعض من يجرحه ويذمه واحد يعد له ويمدحه آخر، فصار مختلفا فيه، فلم يرد حديثه بقول واحد دون من فوقه أو مثله .
وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة فقد وسع فيه بحسن الظن كما جوز فيه قبول شاهد واحد، أي للضرورة، كشهادة القابلة ونحوها، ويروى بمعناه عن الإمام أحمد، والحديث إذا لم ينافه كتاب أو سنة، وإن لم يشهدا له، أو لم يخرج تأويله عن إجماع الأمة، فإنه يوجب القبول والعمل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف وقد قيل" آثر من الرأي والقياس الإمام أحمد . والحديث الضعيف عن
وقال محمد بن حزم: جميع الحنفية مجمعون على أن مذهب أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، نقله أبي حنيفة الذهبي.
والحديث إذا تداوله عصران، أو رواه القرون الثلاثة، أو دار في العصر الواحد، ولم ينكره علماؤه، أو كان مشهورا لا ينكره الطبقة من المسلمين احتمل، ووقع به حجة، وإن كان في سنده قول، إلا ما خالف الكتاب والسنة الصحيحة، أو إجماع الأمة، أو ظهر كذب ناقليه بشهادة الصادقين من الأئمة، وذكر رجل عند حديثا قال: ما سمعنا بهذا فقال: الزهري أكل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعت؟ قال: لا، قال: فثلثاه؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ فسكت، فقال: عد هذا من النصف الذي لم تسمعه، نقله صاحب القوت، وهو في الحلية في ترجمة لأبي نعيم الزهري.
وأخرج في التاريخ في ترجمة ابن عساكر أبي سهيل نافع بن مالك عم من رواية مالك بن أنس أبي أسامة، عن عن جرير بن حازم، الزبير بن سعيد الهاشمي عنه، قال: قلت أما بلغك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: للزهري: "من طلب شيئا من هذا العلم الذي يراد به وجه الله ليطلب به شيئا من عرض الدنيا دخل النار"؟ فقال لا، ما بلغني هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: وكل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغك؟ قال: لا، قلت: فنصفه؟ قال: عسى، قلت: فهذا من النصف الذي لم يبلغك . الزهري:
وقال ما ينبغي لأحد أن يقول: هذا الحديث باطل; لأن الحديث أكثر من ذلك . وكيع بن الجراح:
وقال قال أبو داود: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عشرين ألف عين نظرته، كل واحد قد روى عنه ولو حديثا ولو كلمة .. رواية، فحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ذلك . أبو زرعة الرازي:
قال كان أحمد بن حنبل: يكتب عن الرجل، ويعلم أنه ضعيف، وكان له ذكاء وعلم بالحديث . يزيد بن هارون
وقال قيل إسحاق بن راهويه: هذه الفوائد التي فيها المناكير ترى أن يكتب الجيد منها؟ فقال: المنكر أبدا؛ منكر، قيل: فالضعفاء؟ قال: يحتاج إليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأسا . لأحمد:
وقال أبو بكر المروزي عنه: إن . الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه
ومما يدلك على مذهبه في التوسعة أنه أخرج حديثه كله في المسند المأثور عنه، ولم يعتبر الصحيح منه، وفيه أحاديث يعلم النقاد أنها ضعيفة، وهو أعلم بضعفها منهم، ثم أدخلها في مسنده؛ لأنه أراد تخريج المسند، ولم يقصد صحيح السند، فاستجاز روايتها .
وقد أخرج بعضا منها في الموضوعات، وافقه على بعضها ابن الجوزي الحافظ العراقي في جزء لطيف، ورد عليهما تلميذه الحافظ ابن حجر، فأوسع الكلام على تلك الأحاديث التي طعن عليها في جزء سماه "القول المسدد في الذب عن مسند ابن الجوزي كلاهما عندي، وكان الإمام أحمد" قد قطع أن يحدث الناس في سنة ثمان وعشرين، وتوفي سنة إحدى وأربعين، فلم يسمع أحد منه في هذه المدة إلا ابن منيع جزءا واحدا بشفاعة جده أحمد بن منيع . الإمام أحمد
ويروى عنه قال: كان عبد الرحمن ينكر الحديث، ثم يخرج إلينا بعد في وقت فيقول: هو صحيح قد وجدته .
قال: وأما فلم يكن ينكر، ولكن كان يقول إن سئل عنه: لا أحفظ . وكيع
ويروى عن ابن أخت قال: كان خالي قد خط على أحاديث، ثم صحح عليها بعد ذلك، وقرأتها عليه، فقلت: قد كنت خططت عليها، فقال: نعم، ثم تفكرت أني إذا ضعفتها أسقطت عدالة ناقلها، فإن جاثاني بين يدي الله [ ص: 51 ] تعالى، وقال لي: أسقطت عدالتي! رأيتني؟! سمعت كلامي؟! لم يكن لي حجة. كان هذا مذهب الورعين من السلف . عبد الرحمن بن مهدي
وقال بعضهم في تضعيف الرواة: إن خلصت نيتك، يعني: إن أردت الله تعالى والدين بذلك لم يكن لك ولا عليك .
فهذا الذي ذكرت لك هو أصل في معرفة الحديث، وهو علم لأهله، وطريق هم سالكوه، وما قصدت بذلك الإزراء ولا التنقيص لمقام أصحاب الحديث، كلا والله، بل إني محب لهم، ومعتقد حسن طريقتهم، وإنما أوسعت في الكلام ليظهر بذلك علو نظر الإمام أبي حامد، وأن أكثر ما قيل فيه من جهة إيراده الأحاديث الضعيفة في كتابه غير متجه؛ إذ مقصده جميل لا يتعدى عن حسن الظن بهؤلاء الذين رووها في كتبهم، ونقل هو عن تلك المصنفات، والله تعالى يجعل ما كتبته خالصا لوجهه الكريم، ومقربا إلى جنات النعيم، آمين آمين آمين .