الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا بأس بالكحل ودخول الحمام [ ص: 319 ]

التالي السابق


(ولا بأس) للمحرم (بالكحل ) ما لم يكن فيه طيب ، وعن أبي حنيفة جوازه مطلقا ، وهو المنقول عن المزني ، وعن الإملاء أنه يكره مطلقا ، وتوسط متوسطون ، فقالوا : إن لم يكن فيه زينة كالتوتيا الأبيض لم يكره الاكتحال به ، وإن كان فيه زينة كالإثمد فيكره إلا لحاجة الرمد ونحوه (ودخول الحمام) ، أي : يجوز للمحرم أن يغتسل فيدخل الحمام ، ويزيل الدرن عن نفسه لما روي عن أبي أيوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل وهو محرم ، وروى الشافعي ، والبيهقي بسند فيه إبراهيم بن يحيى عن ابن عباس أنه دخل حمام الجحفة وهو محرم ، وقال إن الله لا يعبأ بأوساخكم شيئا ، وهل يكره ذلك ؟ المشهور أنه لا يكره ذلك ، وحكى الحناطي ، والإمام قولا عن القديم أنه يكره .



(فصل في اعتبار غسل الرأس للمحرم )

لما كان الرأس محل القوى الإنسانية كلها ، ومجمع القوى الروحانية اعتبر فيه الحكم دون غيره من الأعضاء لجمعيته فحفظه متعين على المكان ؛ لأنه لو اختل من قواه قوة أدى ذلك الاختلال إلى فساد يمكن إصلاحه ، أو إلى فساد لا يمكن إصلاحه ، وإما إلى فساد يكون فيه تلفه فيزول عن إنسانيته ويرجع من جملة الحيوانات فيسقط عنه التكليف فتنقطع المناسبة بينه وبين الاسم المنعوت الجامع مناسبة التقريب خاصة لا مناسبة الافتقار ؛ لأن مناسبة الافتقار لا تزول عن الممكن أبدا لا في حال عدمه ، ولا في حال وجوده ، فإذا اغترب الإنسان عن موطن عبوديته ، فهي جنابته ، فيقال له ارجع إلى وطنك حتى يمنحك الحق ما شاء ، فهذا اعتبار غسل الجنابة ، وأما في غير الجنابة ، فحكمة الغسل لحفظ القوى ، وحفظها من أوجب الحكم ، لا سيما وكونها واجبا ؛ لأنها دلت على العلم بعينها ، وكل حكم لها لذاتها كالكيف والكم فضلها الله على خلقه بما لها من جودة الفهم ، فمن راعى حفظ هذه القوى مما ينالها من الضرر لسد المسام ، وانعكاس الأبخرة المؤذية لها المؤثرة فيها قال بالغسل ، ومن غلب الحرمة لضعف الزمان في ذلك ، وندور الضرر ، وإن كان الغسل بالماء يزيد شعثا في تلبيد الرأس ، والله تعالى قد أمرنا بإلقاء الشعث عنا لما ذكرناه من حفظ القوى ، وما في معناها لأن الطهارة ، والنظافة مقصودة للشارع ؛ لأنه القدوس وما له اسم يقابله فيكون له حكم ، ولما جهل علماء الرسوم حكمة هذه العبادة من حيث إنهم ليس لهم كشف إلهي من جانب الحق جعلوا أكثر أفعالها تعبدا ، ونعم ما فعلوا فإن هذا في جميع العبادات كلها مع عقلنا بعلل بعضها من جهة الشرع بحكم التعريف ، أو بحكم مناط الاستنباط ، ومع هذا كله ، فلا نخرجها عن أنها تعبد من الله ، إذ كانت العلل غير مؤثرة في إيجاب الحكم مع وجود العلة ، وكونها مقصودة ، وهذا أقوى في تنزيه الجناب الإلهي إذا فهمت .

وأما اعتبار دخول المحرم الحمام ، فاعلم أنه ليس في أحوال الدنيا ما يدل على الآخرة ، بل على الله تعالى ، وعلى قدر الإنسان مثل الحمام ، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل الحمام بالشام نعم البيت بيت الحمام ينعم البدن ، وينقي الدرن ، ويذكر بالآخرة ، ومن هذه آثاره في العبد لا يكره له استعماله ؛ فإنه نعم الصاحب وبه سمي لأن الحمام من الحميم ، والحميم الصاحب ، وبه سمي حميما لحرارته ، واستعمل فيه الماء لما فيه من الرطوبة فالحمام حار رطب ، وهو طبع الحياة ، وبها ينعم البدن ، وبالماء يزول الدرن وبتجريد الداخل فيه عن لباسه ، ويبقى عريانا ما عدا عورته حافي الرأس لا شيء في بدنه من جميع ما يملكه يذكر الآخرة عند قيام الناس من قبورهم عراة حفاة لا يملكون شيئا ، فدخول الحمام أدل على أحوال الآخرة من الموت ، فإن الميت لا ينقلب إلى قبره حتى يكسى وداخل الحمام لا يدخل إليه حتى يعرى ، والتجريد أدل ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - من دعائه اللهم نقني من الذنوب كما ينقى الثوب من الدرن ، والتنقية من الدرن من صفات الحمام ، واعتبار الحمام عظيم ، وما يعقل ذلك إلا العالمون .



[ ص: 319 ] (فصل)

قال الرافعي : يستحب أن لا يغسل رأسه بالسدر ، والخطمي لما فيه من التزيين لكنه جائز لا فدية فيه بخلاف التدهين ؛ فإنه يؤثر في التنمية مع التزيين ، وإذا غسل رأسه ، فينبغي أن يرفق في الدلك حتى لا ينتتف شعره ، ولم يذكر الإمام ، ولا المصنف في الوسيط خلافا في كراهة غسله بالسدر ، والخطمي لكن الحناطي حكى القول القديم فيه أيضا . أهـ. قلت : واعتبار هذه المسألة ، فاعلم أن كل سبب موجب للنظافة ظاهرا ، وباطنا استعماله في كل حال ، وما ورد كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع على منع المحرم من غسل رأسه بشيء ، ولما أمر الله تعالى الإنسان أن يدخل في الإحرام فيصير حراما بعدما كان حلالا وصفه بصفة العزة أن يصل إليه بعض الأشياء التي كانت تصل إليه قبل أن يتصف بهذه المنعة ، فاعتز وامتنع عن بعض الأشياء ، ولم يمتنع عن أن يناله بعضها ، وأمره أن يحرم فدخل في الإحرام فصار حراما وما جعل ذلك حراما عن أمره سبحانه إلا ليكون ذلك قربة إليه ومزيد مكانة عنده تعالى ، وحتى لا ينسى عبوديته التي خلق لها بكونه تعالى جعله مأمورا في هذه المنعة وداء له نافعا يمنع من علة تطرأ عليه لعظيم مكانته ، فلا بد أن يؤثر فيه عزة في نفسه ، فشرعها له في طاعته بأمر ، وأمره فيه بأن يكون حراما لا احتجار عليه ، بل احتجار له ، والله أعلم .




الخدمات العلمية