الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان إخفاء الصدقة وإظهارها .

قد اختلف طريق طلاب الإخلاص في ذلك ؛ فمال قوم إلى أن الإخفاء أفضل ومال قوم إلى أن الإظهار أفضل ونحن نشير إلى ما في كل واحد من المعاني والآفات ثم نكشف الغطاء عن الحق فيه .

أما الإخفاء ففيه خمسة معان :

الأول : أنه أبقى للستر على الآخذ فإن أخذه ظاهرا هتك لستر المروءة وكشف ، عن الحاجة وخروج عن هيئة التعفف والتصون المحبوب الذي يحسب الجاهل أهله أغنياء من التعفف .

الثاني أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم فإنهم ربما يحسدون أو ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه أخذ مع الاستغناء أو ينسبونه إلى أخذ زيادة .

والحسد وسوء الظن والغيبة من الذنوب الكبائر وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى .

وقال أبو أيوب السختياني إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسدا .

وقال بعض الزهاد : ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين له هذا ؟! وعن إبراهيم التيمي أنه رؤي عليه قميص جديد ، فقال بعض إخوانه : من أين لك هذا ؟ فقال كسانيه : أخي خيثمة ولو علمت أن أهله علموا به ما قبلته .

الثالث : إعانة المعطي على إسرار العمل فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء أكثر والإعانة على إتمام المعروف معروف والكتمان لا يتم إلا باثنين ، فمهما أظهر هذا انكشف أمر المعطي ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئا ظاهرا فرده إليه ودفع إليه آخر شيئا في السر فقبله ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن هذا عمل بالأدب في إخفاء معروفه فقبلته وذاك أساء أدبه في عمله فرددته عليه وأعطى رجل لبعض الصوفية شيئا في الملأ فرده فقال له لم ترد على الله عز وجل ما أعطاك ؟ فقال إنك : أشركت غير الله سبحانه فيما كان لله تعالى ، ولم تقنع بالله عز وجل ، فرددت عليك شركك .

وقبل بعض العارفين في السر شيئا كان رده في العلانية ، فقيل له في ذلك فقال : عصيت الله بالجهر فلم أك عونا لك على المعصية وأطعته بالإخفاء فأعنتك على برك .

وقال الثوري : لو علمت أن أحدكم لا يذكر صدقته ولا يتحدث بها لقبلت صدقته .

الرابع : أن في إظهار الأخذ ذلا وامتهانا ، وليس للمؤمن أن يذل نفسه .

كان بعض العلماء يأخذ في السر ولا يأخذ في العلانية ، ويقول إن : في إظهاره إذلالا للعلم وامتهانا لأهله فما كنت بالذي أرفع شيئا من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله .

التالي السابق


(بيان إخفاء الصدقة وإظهارها) وما فيهما من المعاني الباطنة والآفات المستكنة، وتفصيلهما، وبيان الأفضل منهما، (قد اختلفت طريق طلاب) ، وفي نسخة: قد اختلفت طرق طالبي (الإخلاص في ذلك؛ فمال قوم إلى أن الإخفاء أفضل) ، وهو مشرب القراء من العابدين من أهل الظاهر، (ومال قوم) آخرون (إلى أن الإظهار) فيهما (أفضل) ، وهو مشرب خاصتهم من أهل المعرفة الموصوفين بالتوحيد، (ونحن نشير إلى ما في كل واحد من المعاني) الباطنة (والآفات) المسكنة، (ثم نكشف الغطاء عن) تحقيق (الحق فيه) ؛ ليعول عليه، فأقول: (أما الإخفاء ففيه خمسة معان؛ الأول:) ، وهو ملاحظة كثير من الناس (أنه إبقاء للستر على الآخذ) لها، وقد أمرنا بإسبال الستر على إخواننا، (فإن أخذه) إياها (ظاهرا) حيث يراه الناس (يهتك) أي: يخرق (ستر المروءة، ويكشف عن الحاجة) والافتقار، (ويخرج) الآخذ (عن هيئة التعفف) ، وهو تكلفة العفة؛ وهي كف ما يبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه، (والتصون) أي: التحفظ (المحبوب الذي يحسب الجاهل) ببواطن الأمور (أهله) الموسومين به (أغنياء من التعفف) أي: من كفهم لما لا ينبغي تناوله، أشار به إلى الآية المذكورة في شأنهم، ثم قال: لا يسألون الناس إلحافا ، وقد تقدم معناه (الثاني) ، وهو ملاحظة بعضهم: (أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم) وأصلح، (فإنهم ربما يحسدونه) فيما أخذ دونهم، (أو ينكرون عليه أخذه) باللسان، ومنشؤه الحسد الباطن، (ويظنون أنه أخذه مع الاستغناء) ، وأنه غير محتاج إليه، ويزعمون أن الصدقة وقعت في غير موضعها، (أو ينسبونه إلى أخذ زيادة على قدر الحاجة) ، ففيه مع الحسد سوء ظن بأخيه، وكلامه فيه بما لا يليق داخل في حد الغيبة، بل ربما أداه إلى البهت فيه، (ومعلوم أن الحسد وسوء الظن والغيبة) والنميمة (من) جملة (الذنوب الكبائر) أعاذنا الله منها، (وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى) ، ثم ذكر عن بعض السلف من أحوالهم ومراعاتهم في ذلك بما يؤكد على هذا، فقال: (قال أيوب السختياني) هو أيوب بن أبي تميمة البصري أبو بكر، سيد شباب أهل البصرة، [ ص: 177 ] وأشد الناس اتباعا للسنة، تابعي جليل ثقة ورع عابد، مات سنة 131، روى له الجماعة: (إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسد) ؛ أي: فيقولون: من أين له هذا؟! ويظنون ما لا يليق؛ أي: فلا أكون سببا لإحداث هذا الوصف الذميم فيهم، (وقال بعض الزهاد: ربما تركت استعمال الشيء) لبسا أو ركوبا أو غير ذلك (لأجل) حفظ سرائر (إخواني) وهم أعم من المجاورين وغيرهم، (يقولون) في أنفسهم من باب الظن: (من أين له هذا؟!) ومن أعطاه كذا؟! نقله صاحب القوت، (وعن إبراهيم التيمي) ، وهو إبراهيم بن يزيد بن شريك، أبو أسماء الكوفي، من تيم الرباب، كان من العباد، كان يمكث ثلاثين يوما لا يأكل، روى عن عائشة مرسلا وعن أنس وعمر وابن ميمون وعنه الأعمش وجماعة، وقال المحاربي: حدثنا الأعمش قال لي إبراهيم التيمي: ما أكلت من أربعين يوما إلا حبة عنب. قتله الحجاج سنة 92، وما بلغ أربعين سنة. روى له الجماعة: (أنه رؤي عليه قميص جديد، فقال بعض إخوانه: من أين لك هذا؟ فقال: كساني أخي خيثمة) بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي الكوفي، لأبيه وجده صحبة، وكان خيثمة رجلا صالحا سخيا، ورث مائتي ألف، فأنفقها على العلماء، روى عن علي وعائشة، وعنه الحكم ومنصور، مات بعد الثمانين، (ولو علمت أن أهله علموا به ما قبلته) ، وهذا الذي ذكره المصنف تابع فيه صاحب القوت، فإنه قال: وحدثونا عن إبراهيم التيمي أنه رأى عليه صاحب له قميصا جديدا، والذي ذكره المزني وغيره عن العجلي أن هذه الواقعة لإبراهيم النخعي لا التيمي، وهذا لفظه: رؤي على إبراهيم النخعي قباء، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: كسانيه خيثمة ولم ينج من فتنة ابن الأشعث إلا رجلان، إبراهيم النخعي وخيثمة, فتنبه لذلك. (الثالث: إعانة المعطي على أسرار العمل) وإخفائه (فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء) بل في سائر الأعمال إلا ما استثنى (أكثر) ، وفي الإعطاء خاصة قد ذكر حديث: صدقة السر تفضل صدقة العلانية سبعين ضعفا. تقدمت الإشارة إليه، (والإعانة على إتمام المعروف معروف) كما أن الإعانة على العبادة عبادة، (والكتمان لا يتم إلا باثنين، فمهما أظهر هذا انكشف أمر المعطي) فينبغي الإخفاء من الطرفين، وعبارة القوت: فإذا لم يعاونه هذا على إخفاء عطائه، ولم يساعده على كتم معروفه، ولم يتم ذلك له بنفسه؛ لأنه سر بين اثنين إن أفشاه أحدهما أو لم يتفقا على كتمه فقد ظهر من أيهما كان الخبر، وقد جاء في الخبر: استعينوا على أموركم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود. (ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئا ظاهرا) أي: على ملأ من الناس (فرده ودفع إليه) رجل (آخر شيئا في السر فقبله، فقيل له في ذلك، فقال: إن هذا عمل بالأدب في) معاملته من جهة (إخفاء معروفه فقبلته) أي: قبلت عمله، وذلك أي: الذي أظهر معروفه (أساء أدبه في عمله) أي: معاملته (فرددته عليه) ، نقله صاحب القوت، (وأعطى رجل بعض الصوفية شيئا في الملأ) من الناس (فرده) عليه، (فقال له) ، وفي بعض النسخ: فقيل له: (لم ترد على الله عز وجل ما أعطاك؟ فقال: أنت أشركت غير الله سبحانه وتعالى فيما كان لله تعالى، ولم تقنع بعين الله عز وجل في السر، فرددت عليك شركك) ، كأنه رأى أن إعطاء ذلك بين الناس أراد به المرآة؛ فلذا جعله شركا، (وقبل بعض العارفين في السر شيئا كان رده في العلانية، فقيل له في ذلك) ولفظ القوت: وحدثنا أن رجلا دفع إلى بعض العارفين شيئا علانية فرده، ثم دفعه إليه سرا فقبله، فقال له: رددت في الجهر وقبلت في السر، (فقال:) لأنك (عصيت الله بالجهر فلم أك عونا لك على المعصية وأطعته بالإخفاء فأعنتك على برك) بقبوله، (وقال الثوري:) ولفظ القوت: وقد كان سفيان الثوري يقول: (لو علمت أن أحدكم لا يذكر صلته) أي: عطيته (ولا يتحدث بها) عند الناس (لقبلت صلته) ، وفي هذا مواطأة لما ندب الله إليه من الإخفاء، ولما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فضله من أعمال السر، (الرابع: أن في إظهار الأخذ ذلا وامتهانا، وليس للمؤمن أن يذل نفسه) ، كما ورد في الخبر، وتقدم ذكره في كتاب العلم (وقد كان بعض العلماء يأخذ في السر ولا يأخذ في العلانية، ويقول: في إظهاره إذلال للعلم وامتهان لأهله) ، ولفظ القوت: فسئل عن ذلك، فقال: إن في إظهاره إذلالا للعلم وامتهانا لأهله (فما [ ص: 178 ] كنت بالذي أرفع شيئا من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله .

الخامس: الاحتزاز عن شبهة الشركة) أي: الاشتراك فيما أعطى (قال صلى الله عليه وسلم: من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها) هكذا أورده صاحب القوت، قال العراقي: رواه العقيلي وابن حبان في الضعفاء، والطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث ابن عباس، وقال العقيلي: لا يصح في هذا المتن حديث. اهـ .

قلت: ولفظهم كلهم: من أهديت إليه هدية، وهو أيضا في مسند عبد بن حميد ومصنف عبد الرزاق من حديث ابن عباس، وفي مسند إسحاق بن راهويه، والغيلانيات لأبي بكر الشافعي، ومعجم الطبراني من حديث الحسن بن علي، وعند العقيلي من حديث عائشة، كلهم به مرفوعا، وقال العقيلي: لا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وأورده البخاري في الصحيح معلقا، فقال: ويذكر عن ابن عباس أن جلساءه شركاؤه فيها، وأنه لم يصح، قال الحافظ السخاوي: ولكن هذه العبارة من مثله لا تقتضي البطلان بخلافها من العقيلي، وعلى كل حال فقد قال شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر: إن الموقوف أصح، والله أعلم .




الخدمات العلمية