الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة التاسعة أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة وفي المآل القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربين ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران وإن كان هذا مقصده طلب لا محالة الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة .

ومع هذا فلا ينبغي له أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم أعني علم الفتاوى وعلم النحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك مما أوردناه في المقدمات والمتممات من ضروب العلوم التي هي فرض كفاية ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم الآخرة تهجين هذه العلوم فالمتكفلون بالعلوم كالمتكفلين بالثغور والمرابطين بها والغزاة المجاهدين في سبيل الله فمنهم المقاتل ومنهم الردء ومنهم الذي يسقيهم الماء ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدهم ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان قصده إعلاء كلمة الله تعالى دون حيازة الغنائم فكذلك العلماء قال الله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى هم درجات عند الله والفضيلة نسبية .

واستحقارنا للصيارفة عند قياسهم بالملوك لا يدل على حقارتهم إذا قيسوا بالكناسين فلا تظن أن ما نزل عن الرتبة القصوى ساقط القدر بل الرتبة العليا للأنبياء ثم الأولياء ثم العلماء الراسخين في العلم ثم للصالحين على تفاوت درجاتهم

وبالجملة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ومن قصد الله تعالى بالعلم أي علم كان نفعه ورفعه لا محالة .

التالي السابق


( الوظيفة الثامنة) من الوظائف التسعة:

( أن يكون قصد المتعلم في الحال) صحيحا بصدق نية، وخلوص عزم، وبقصد ( تخلية باطنة) من الشوائب النفسية ( وتجميله) ، وفي نسخة: تحليته ( بالفضيلة) والأوصاف النفسية ( و) أن يكون قصده ( في المآل القرب من الله تعالى) أي: بما يوصله إليه ( والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربين) من عباده ( ولا يقصد به الرياسة) في الدنيا ( و) جمع ( المال) وتحصيل الجاه ( ومماراة السفهاء) ومجاراتهم في كلامهم، وفي نسخة: مباراة ( ومباهاة الأقران) فإن كلا من ذلك يجر إلى الدنيا ويركنه إلى حبها والسعي في تحصيلها فيحرم من الوصول إلى المقصود الأعظم (فإن كان هذا مقصده) يعني الوصول إلى الله تعالى ( طلب لا محالة) أي: البتة ( الأقرب إلى مقصوده) والمعين على أصوله ( وهو علم الآخرة) وما يتعلق به وما يتعلق به وما يوصله إليه، ( ومع هذا فلا ينبغي) له ( أن ينظر بعين الحقارة) والنقص ( إلى سائر العلوم) التي هي سوى علم الآخرة ( أعني علم الفتاوى) والأقضية ( وعلم النحو و) علم ( اللغة) بأنواعهما ( المتعلقين بالكتاب والسنة) تعلقا شديدا، بحيث لا طريق لوصول الفهم فيهما إلا بهما ( غير ذلك) من العلوم ( مما أفردناه) وذكرناه ( في المقدمات والمتممات من ضروب العلم الذي هو فرض كفاية) .

وقد ذكر الشهاب السمين في مقدمة تفسيره أن أصح علوم القرآن وآكدها بعد تجويد ألفاظه لتلاوة خمسة علوم علم الإعراب وعلم التصريف وعلم اللغة وعلم المعاني والبيان، وهي متجاذبة شديدة الاتصال بعضها ببعض لا يحصل للناظر في بعضها كبير فائدة بدون الاطلاع على باقيها فإن من عرف كون هذا فاعلا أو مفعولا أو مبتدأ مثلا ولم يعرف كيفية تصريفه ولا اشتقاقه ولا كيف موقعه من النظم لم يحل بطائل، وكذا لو عرف موقعه من النظم ولم يعرف باقيها اهـ .

أقول: وآكد هذه الخمسة أولا التصريف، ثم الإعراب، ثم اللغة، ثم المعاني، ثم البيان على هذا الترتيب ( ولا يفهمن) فاهم ( من غلونا) أي: تجاوزنا ( في الثناء على علم الآخرة) وتحسينه بالإجمال تارة وبالتفصيل أخرى ( تهجير هذه العلوم) التي ذكرت أي تشيينها والحط عليها ( فالمتكلفون بالعلوم) التي ذكرت، أي الحاملون لها ( كالمتكلفين) أي: المحافظين ( للثغور) الإسلامية التي تحاذي الكفار ( والمرابطين لها) ، ولما كانت هذه العلوم صارت الآن مقصودة بالذات سمى المغاربة طالب العلم مرابطا نظرا إلى هذا المعنى وهو غريب ( والغزاة) كلهم ( مجاهدون في سبيل الله) لإعلاء كلمة الله .

( ومنهم المقاتل) بنفسه ( ومنهم الرده) أي: العون لهم والمدد ( ومنهم الذي يسقيهم الماء) .

ومنهم الذي يربط على جراحاتهم ويداويها .

( ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدها) ; كي لا تنفر .

ومنهم الذي يحفظ أثاثهم وأمتعتهم وخيامهم; كي لا يكسبها العدو ( ولا ينفك واحد منهم عن أجر) وثواب من الله ( إذا كان قصده) صحيحا وهو ( إعلاء كلمة الله) عز وجل ( دون حيازة الغنائم) ، ودون الرياء والسمعة، ودون إظهار الشجاعة ليقال: إنه شجاع، كما صرح بذلك الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره ( وكذلك العلماء) بمراتبهم ودرجاتهم يتفاوتون تفاوت الغزاة في سبيل الله وبين تلك المراتب مسافات وغايات تنقطع دونها الأكباد:


كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهن حتوف

( قال الله تعالى) في كتابه العزيز في سورة المجادلة ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) قال ابن عباس في تفسيره فيما أخرجه ابن المنذر، والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل عنه قال: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات، وعن ابن مسعود فيما أخرجه سعيد بن منصور، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات.

[ ص: 327 ] وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أيضا قال: ما خص الله العلماء في شيء من القرآن، كما خصهم في هذه الآية فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، ( و) قال تعالى في سورة آل عمران: أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ( هم درجات عند الله) والله بصير بما يعملون قال البيضاوي: شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب أو هم ذوو درجات اهـ .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية، فقال: للناس درجات في أعمالهم في الخير والشر، وأخرج ابن المنذر عن الضحاك: هم درجات عند الله قال: أهل الجنة بعضهم فوق بعض فيرى الذي فوق فضله على الذي أسفل منه، ولا يرى الذي أسفل منه أنه فضل عليه أحد، ( والفضيلة) بين هؤلاء ( نسبة) إضافية ( واستحقارنا) طائفة ( الصيارفة) الذين ينقدون الدراهم والدنانير ويميزون بين جيدها ورديئها ( عند قياسهم بالملوك) والأمراء وأحوالهم ( لا يدل على حقارتهم) ونقص منزلتهم ( إذا قيسوا بالكناسين) والزبالين مثلا، ( ولا تظنن) في نفسك ( أن ما نزل عن المرتبة القصوى) في الدرجة ( ساقط القدر) ، والمنزلة مطلقا ( بل الرتبة العليا) في معرفة الله سبحانه التي هي أشرف المعلومات ( للأنبياء) صلوات الله عليهم، ( ثم الأولياء) العارفين ( ثم العلماء الراسخين) في علومهم، ( ثم الصالحين) من عباده ( على تفاوت درجاتهم) بحسب اختلاف قربهم منه سبحانه، وهذا السياق أعني تقديم ذكر الأولياء على العلماء مر له في بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة استشكلوه على المصنف، وسئل عنه العز بن عبد السلام، فأجاب بصحة العبارة بما تقدم إجماله وهو بطوله في كتاب تأييد الحقيقة العلية للحافظ السيوطي.

( وبالجملة من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الذرة النملة الصغيرة، وقيل: الهباء، قيل: أراد بهما حسنة الكافر وسيئة المجتنب عن الكبائر أنهما تؤثران في نقص الثواب والعقاب، وقيل: الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة والأولى مخصوصة بالسعداء والثانية بالأشقياء لقوله: أشتاتا قاله البيضاوي، وهذه الآية هي الفاذة الجامعة كما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

وفي الدر المنثور للسيوطي: أخرج ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يأكلان إذ نزلت هذه السورة فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عن الطعام، ثم قال: من عمل منكم خيرا فجزاؤه في الآخرة، ومن عمل منكم شرا يره، في الدنيا مصيبات وأمراضا، ومن يكن فيه مثقال ذرة من خير دخل الجنة.

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع رجلا إلى رجل بعلمه فعلمه حتى بلغ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، قال: حسبي فقال: النبي صلى الله عليه وسلم دعه فقد وفق ( ومن قصد الله) عز وجل أي أراد السلوك إلى معرفته ( بالعلم أي علم كان) بشرط الإخلاص فيه ( نفعه) في دنياه وآخرته ( ورفعه) فيهما ( لا محالة) البتة، وهذا الفصل أيضا بتمامه في كتاب الذريعة، ونصه العلم طريق إلى الله تعالى ذو منازل قد وكل الله بكل منزل منها حفظة كحفظة الرباطات والثغور في طريق الحج والغزو، فمن منازله معرفة اللغة التي عليها مبنى الشرع، ثم حفظ كلام رب العزة، ثم سماع الحديث ثم الفقه، ثم علم الأخلاق والورع ثم علم المعاملات وما بين ذلك من الوسائط من معرفة أصول البراهين والأدلة .

ولهذا قال تعالى: هم درجات عند الله ، وقال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، وكل واحد من هؤلاء الحفظة إذا عرف مقدار نفسه ومنزلته ودنا ووفى حق ما هو بصدده فهو في جهاد يستوجب من الله لحفظ مكانه; ثوابا على قدر عمله، لكن قلما ينفك كل منزل منها من شرير في ذاته وشره في مكسبه، وطالب في رياسته وجاهل معجب بنفسه بصير لأجل تنفق سلعته صارفا عن المنزل الذي فوق منزلته من العلم، وعائبا له فلهذا ترى كثيرا ممن حصل في منزل من منازل العلوم دون الغاية عائبا لما فوقه، وصارفا عنه من رآه فإن قدر أن يصرف عنه الناس بشبهة من صرفه فعل من قال الله تعالى فيهم: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، الآية. وما أرى من هذا صنعه إلا من الذين وصفهم الله تعالى بقوله: الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة .




الخدمات العلمية