الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : كم من طالب رديء الأخلاق حصل العلوم فهيهات ما أبعده عن العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر له أن المعاصي سموم قاتلة مهلكة وهل رأيت من يتناول سما مع علمه بكونه سما قاتلا إنما الذي تسمعه من المترسمين حديث يلقفونه بألسنتهم مرة ويرددونه بقلوبهم أخرى وليس ذلك من العلم في شيء .

قال ابن مسعود رضي الله عنه ليس العلم بكثرة الرواية إنما ، العلم نور يقذف في القلب .

وقال بعضهم : إنما العلم الخشية لقوله ، تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وكأنه أشار إلى أخص ثمرات العلم .

ولذلك قال بعض المحققين معنى قولهم تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله أن : العلم أبى وامتنع علينا فلم تنكشف لنا حقيقته وإنما حصل لنا حديثه وألفاظه .

فإن قلت : أرى جماعة من العلماء والفقهاء المحققين برزوا في الفروع والأصول وعدوا من جملة الفحول وأخلاقهم ذميمة لم يتطهروا منها فيقال إذا عرفت مراتب العلوم وعرفت علم الآخرة استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء من حيث كونه علما وإنما غناؤه من حيث كونه عملا لله تعالى إذا قصد به التقرب إلى الله تعالى وقد سبقت إلى هذا إشارة .

وسيأتيك فيه مزيد بيان وإيضاح إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


(فإن قلت: كم من طالب رديء الأخلاق) ذميم الأوصاف اجتهد في هذا الطريق و (حصل العلوم) وفي نسخة: العلم وسمي عالما واقتدى به الناس (فهيهات ما أبعدك عن) معرفة (العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة) الكبرى (فإن من أوائل ذلك) وعلاماته الصادقة (أن يظهر له) بتوفيق من الله تعالى (أن المعاصي) في أعسالها (سموم مهلكة) قتالة لا تقبل البرء (وهل رأيت) في العقلاء (من يتناول سما) باختياره (مع علمه بكونه سما) قاتلا فهذا الذي حصله من العلوم مما بعثه على تحصيل الحطام الفاني لا مما قربه وأدناه إلى الحبيب الداني، وقد أورد هذا الحديث ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة بأبسط من هذا فقال: فضيلة الشيء تعرف بضده ولا ريب أن الجهل أصل كل فساد وكل ضرر يلحق فهو نتيجة الجهل، وإلا فمع العلم التام بأن هذا الطعام مثلا مسموم من أكله قطع أمعاءه في وقت معين لا يقدم على أكله وإن قدراته أقدم عليه بغلبة جوع أو استعجال وفاة فهو لعلمه بموافقة أكله لمقصوده الذي هو أحب إليه من العذاب بالجوع أو بغيره ثم ذكر الاختلاف في مسألة: هل العلم يستلزم الاهتداء أم لا؟ اختلف المتكلمون وأرباب السلوك، واحتج كل فرقة بدليل من الآيات والأحاديث ثم قال المقتضي قسمان: قسم لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه لقصوره في نفسه بل يستلزمه استلزام العلة التامة لمعلولها ومقتض غير تام يتخلف عنه مقتضاه لقصوره في نفسه عن التمام أو لفوات شرط اقتضائه أو قيام مانع منع تأثيره فإن أريد بكون العلم مقتضيا للاهتداء التام الذي لا يتخلف عنه أثره بل يلزمه الاهتداء بالفعل فالصواب قول الطائفة الثانية وأنه لا يلزم من العلم الاهتداء المطلوب وإن أريد كونه موجبا أنه صالح للاهتداء مقتض وقد تخلف عنه مقتضاه لما ذكر، فالصواب قول الطائفة الأولى، ثم ذكر أسباب التخلف وهو نفيس فراجعه .

(وإنما الذي تسمعه من المترسمين) الآخذين برسوم العلم الظاهرية وفي نسخة: المتوسمين (حديث تلقفوه) أي: أخذوه بأفواههم ولقف الفم شدته، وفي نسخة: بألسنتهم وبقلوبهم بصيغة الجمع فيهما (وليس ذلك من العلم) النافع الموصل (في شيء) أصلا (قال) الإمام الجليل عبد الله (ابن مسعود) -رضي الله عنه- (ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يقذف في القلب، وقال بعضهم: إنما العلم الخشية، إذ قال الله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء ) قلت: الذي في [ ص: 310 ] الحلية لأبي نعيم في ترجمة عبد الله بن مسعود ما نصه: حدثنا أبو أحمد الغطريفي، حدثنا أبو خليفة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا قرة بن خالد عن عون بن عبد الله، قال: قال عبد الله: ليس العلم بكثرة الرواية، لكن العلم الخشية فعلم من سياقه أن الجملتين من كلام ابن مسعود، فيكون المراد من قوله: وبعضهم هو هو وقوله إذ قال تعالى إلخ، هذه الزيادة ليست عند أبي نعيم وقوله: إنما العلم نور إلخ، قد أورده صاحب القوت في سياق كلامه في أحوال السلف ما نصه: فهذا كما قيل العلم نور، يقذفه الله تعالى في قلوب أوليائه، كما تقدم ذلك في سادس شروط المناظرة، أي: فليس كل قلب يقذف فيه النور (وكأنه) أي: صاحب هذا القول (أشار) بذلك (إلى أخص ثمرات العلم) وأعلاها وأنماها كما دل على ذلك الحصر بأنما، وقد تقدم البحث في معنى الآية والخشية في أول الكتاب (ولذلك قال بعض المحققين) من السلف إن (معنى قولهم تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله) وطالما كنت أسمع الشيوخ يعزون هذه المقالة إلى المصنف وأنه أبو عذرتها، وكنت أفهم من تقاريرهم في معناها أن تعلمنا في المبادئ لم يكن يخلو من عدم الإمحاض في تحصيله فأبى إلا أن يجرنا إلى طريق السلوك والهداية إلى الله تعالى، وتقدم في أثناء ترجمة المصنف حين أمره وأخاه وصيهما أن ينزلا مدرسة من المدارس ليتقوتا فيها ويحصلان العلم، وكان ما كان فقال المصنف هذا الكلام إذ ذاك والآن قد ظهر من سياق المصنف أن المقالة المذكورة لأحد من المتقدمين ليست له، وإنما هو ناقل بل هو مقلد لصاحب القوت، فإنه هو الذي نقلها هكذا وفسرها بما يأتي وإن تفسيرها (أي: إن العلم أبى وامتنع علينا) بحسب قصورنا في الاجتهاد وعجزنا عن كثير من الشروط (فلم تنكشف لنا حقيقته) من حيث هو هو (وإنما حصل لنا حديثه) الظاهر (وألفاظه) ومثله ورسومه فقط فهذا تأويل آخر لتلك المقالة غير ما كنا نسمعه من الشيوخ ونفهمه .

(فإن قلت: إني أرى جماعة) كثيرة (من الفقهاء المحققين) المدققين (برزوا في الفروع والأصول) أي: ظهروا على الناس في معرفتها واستنباط الأحكام الشرعية منها (وعدوا) بذلك (من جملة الفحول و) مع ذلك (أخلاقهم) التي جبلوا عليها (ذميمة) ردية (ولم يتطهروا منها) ولم يتخلصوا من أدناسها (فيقال) في الجواب عن ذلك (إذا عرفت مراتب العلوم) النافعة (وعرفت مقاديرها) بميزان الإخلاص (بحكم الآخرة) لا بحكم الدنيا (استبان) أي: ظهر (لك أن ما اشتغلوا به) وتعبوا عليه كثير العناء (قليل الغناء) أي: الجدوى (من حيث كونه علما وإنما غناؤه) وفائدته (من حيث كونه عملا لله تعالى) موصلا إليه (إذا قصد به التقرب إلى الله تعالى) لا ما إذا قصد به غير الله من نحو تحصيل جاه أو حطام دنيوي أو مباهاة أو غير ذلك (وقد سبقت إلى هذا إشارة) في عدة مواضع (وسيأتيك فيه بيان مزيد وإيضاح) إن شاء الله تعالى في ذكر العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة وفي مواضع أخر غيرها والله أعلم .




الخدمات العلمية