الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها الفرح لمساءة الناس والغم لمسارهم ومن لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فهو بعيد من أخلاق المؤمنين فكل من طلب المباهاة بإظهار الفضل يسره لا محالة ما يسوء أقرانه وأشكاله الذين يسامونه في الفضل ويكون التباغض بينهم كما بين الضرائر فكما أن إحدى الضرائر إذا رأت صاحبتها من بعيد ارتعدت فرائصها واصفر لونها فكذا ترى المناظر إذا رأى مناظرا تغير لونه واضطرب عليه فكره فكأنه يشاهد شيطانا ماردا أو سبعا ضاريا فأين الاستئناس والاسترواح الذي كان يجري بين علماء الدين عند اللقاء وما نقل عنهم من المؤاخاة والتناصر والتساهم في السراء والضراء حتى قال الشافعي رضي الله عنه العلم بين أهل الفضل والعقل رحم متصل .

فلا أدري كيف يدعي الاقتداء بمذهبه جماعة صار العلم بينهم عداوة قاطعة فهل يتصور أن ينسب الأنس بينهم مع طلب الغلبة والمباهاة هيهات هيهات وناهيك بالشر شرا أن يلزمك أخلاق المنافقين ويبرئك عن أخلاق المؤمنين والمتقين .

ومنها النفاق فلا يحتاج إلى ذكر الشواهد في ذمه وهم مضطرون إليه فإنهم يلقون الخصوم ومحبيهم وأشياعهم ولا يجدون بدا من التودد إليهم باللسان وإظهار الشوق والاعتداد بمكانهم وأحوالهم . ويعلم ذلك المخاطب والمخاطب وكل من يسمع منهم أن ذلك كذب وزور ونفاق وفجور فإنهم متوددون بالألسنة متباغضون بالقلوب نعوذ بالله العظيم منه فقد قال صلى الله عليه وسلم إذا تعلم الناس العلم وتركوا العمل وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا في الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم رواه الحسن وقد صح ذلك بمشاهدة هذه الحالة .

التالي السابق


(ومنها) أي: ومن [ ص: 299 ] آفات المناظرة (الفرح بمساءة الناس) أي بما يسوءهم (و) حصول (الغم) والكذب (مما يسرهم) وذلك؛ لأن خصمه إن بهت في مناظرته وأسكت فخصمه يفرح لذلك وإن أسكت هو فذلك مما يسر خصمه فيضيق صدره لذلك وليس ذلك من صفات المؤمنين (ومن لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه) من الخير (فهو بعيد من أخلاق المؤمن) الكامل وفي نسخة: المؤمنين لما ورد في الصحيحين من الإيمان أن تحب لأخيك كل ما تحب لنفسك ( وكل من يطلب المباهاة) والمفاخرة (بإظهار الفضل) والكمال (يسره لا محالة ما يسوء أقرانه وأشكاله الذين يسامونه في الفضل) وهذه حال المناظرين في الأغلب (ويكون التباغض بينهم) جاريا (كما بين الضرات) جمع ضرة، وتجمع أيضا على الضرائر (وكما أن إحدى الضرائر إذا رأت صاحبتها) مقبلة (ارتعدت) اضطربت (فرائصها) جمع: فريصة وهي اللحمة المتدلية على القلب وتسمى البوادر أيضا (واصفر لونها) وتغير حالها (فكذا ترى المناظر إذا رأى مناظرا) من بعيد (يريد) أي يتغير (لونه ويضطرب عليه فكره) لما داخله منه خوف المغلوبية (وكأنه شاهد) في صورته هذه (شيطانا) ماردا (أو سبعا ضاريا) أي: لهجا بأخذ الصيد (فإن الاستئناس) مع الإخوان على صراط الحب المستقيم (والاسترواح الذي كان يجري بين علماء الدين) في الخلوة والمحافل (عند اللقاء) مع بعضهم فكانوا يرتاحون بمذاكرة العلم ويستأنسون بها معهم ويحب أحدهم لا يفارق صاحبه مدى الدهر (وما نقل عنهم) في سيرهم (من المؤاخاة) والموازرة والتعاون (والتناصر والتساهم) أي: التقاسم (في) حالتي (السراء والضراء) والمنشط والمكره (حتى قال) الإمام (الشافعي) -رحمه الله تعالى- (العلم بين أهل الفضل والعقل رحم متصل) والرحم في الأصل ما يشتمل على الولد من أعضاء التناسل ومنه استعير للرحم بمعنى القرابة لخروجهم من رحم واحد، فمعنى قول الإمام: إن العلم هو سبب القرابة والمؤانسة بينهم فصاروا في الاتصال كأنهم خرجوا من رحم واحدة (ولا أدري كيف يدعي) بزعمهم (الاقتداء) أي: الاتباع (بمذهبه جماعة صار العلم بينهم) بتباغضهم (عداوة قاطعة) ومجافاة مانعة (فهل يتصور أن يستتب) أي: يستتم (الأنس) والحب (مع طلب) الغلو و (الغفلة والمباهاة) والترفع (هيهات هيهات) بعيد منهم ذلك (فناهيك) أي: كافيك بالشيء (شرا) وبعدا ومقتا (أن يلزمك) ويورثك (أخلاق المنافقين) والكاذبين (ويبرئك) أي: يبعدك ( عن أخلاق المؤمنين والمتقين) من أهل اليقين .

(ومنها) أي: ومن آفات المناظرة (النفاق) وهو إبطان غير الظاهر وقيل: هو الدخول في الشرع من باب، والخروج من باب آخر، وفي تسمية المنافق منافقا وجوه ثلاثة ذكرها أئمة اللغة (ولا يحتاج إلى ذكر الشواهد) المتعلقة به وما ورد (في ذمه) فإنه كثير والكتب مشحونة بذكره (وهم) أي المناظرون (مضطرون) أي محتاجون (إليه) ضرورة (فإنهم يلقون الخصوم ومحبيهم) ومن تودد إليهم (وأشياعهم) أي: أتباعهم الملازمين لهم بوجه طلق (ولا يجدون بدا من التودد) إليهم (باللسان) واللين في الكلام وأنواع المؤانسات (وإظهار الشوق) في أثناء المحاورات (والاعتداد) أي: الاعتبار (بمكانهم) وشأنهم (و) سائر (أحوالهم) بغاية التفحص والاعتناء (ويعلم المخاطب) بفتح الطاء (والمخاطب) بكسرها (وكل من يسمع ذلك منهم) أي: من المتخاطبين أشياعهم (أن ذلك) أي: إظهار التودد والبشاشة (كذب) منهم غير مطابق لسانهم بما في قلوبهم (وزور) محض (ونفاق) خالص (وفجور) هو شق ستر الديانة قاله الراغب (وإنهم متواددون بالألسنة) في الظواهر (متباغضون بالقلوب) في البواطن (نعوذ بالله منه) فإنه وصف قبيح لا يتحلى به مؤمن يخشى الله تعالى كيف وقد (قال -صلى الله عليه وسلم- إذا تعلم الناس العلم وتركوا [ ص: 300 ] العمل وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم) فهذا حال النفاق وترك العمل ما يخالف باطنه من الحب والبغض ومقاطعة الأرحام التي أمروا بوصلها، وهي أرحام العلم فالمتصف به يستحق الطرد والبعد من رحمة الله وقوله فأصمهم أي: عن استماع الحق وأعمى أبصارهم أي: عند رؤية الحق (رواه الحسن) أي: البصري فإنه هو المراد عند إطلاقه عند المحدثين فالحديث مرسل، وقال العراقي: أخرجه الطبراني من حديث سلمان بإسناد ضعيف نحوه. اهـ .

وقال في التخريج الكبير وقد ورد متصلا من حديث سلمان وابن عمير، أما حديث سلمان فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط، من رواية الحجاج بن فرافصة عن ابن عمر وعن سلمان رفعه: إذا ظهر القول وخزن العمل وائتلفت الألسن وتباغضت القلوب وقطع كل ذي رحم رحمه فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم الله وأعمى أبصارهم وإسناده حسن وقد رويناه في الخبر الثالث من حديث أبي عمرو بن حمدان من وجه آخر وفي إسناده محمد بن عبد الله بن علاثة مختلف فيه ورواه البيهقي في المدخل موقوفا على سلمان ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا، وأما حديث ابن عمر روينا في الجزء الثالث المذكور من رواية أبي عمرو عنه بلفظ: يوشك أن يظهر العلم ويخزن العمل ويتواصل الناس بألسنتهم ويتباعدون بقلوبهم فإذا فعلوا ذلك طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وفي سنده بشر بن إبراهيم الخلوع ضعيف جدا وفي ترجمته رواه ابن عدي في الكامل قلت: وهكذا أخرجه الديلمي أيضا في مسند الفردوس عن ابن عمر (وقد صح ذلك) أي: ما ذكرناه (مشاهدة) فلا مجال للإنكار فيه وفي نسخة: بمشاهدة الحال .




الخدمات العلمية