الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبالجملة فالمرضي عند العقلاء أن تقدر نفسك في العالم وحدك مع الله وبين يديك الموت والعرض والحساب والجنة والنار وتأمل فيما يعنيك مما بين يديك ودع عنك ما سواه والسلام .

وقد رأى بعض الشيوخ بعض العلماء في المنام فقال له ما خبر تلك العلوم التي كنت تجادل فيها وتناظر عليها فبسط يده ونفخ فيها وقال : طاحت كلها هباء منثورا وما انتفعت إلا بركعتين خلصتا لي في جوف الليل .

وفي الحديث ما : ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم قرأ : ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون وفي الحديث في معنى قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ الآية هم أهل الجدل الذين عناهم الله بقوله تعالى : فاحذرهم وقال بعض السلف يكون في آخر الزمان قوم يغلق عليهم باب العمل ويفتح لهم باب الجدل .

وفي بعض الأخبار إنكم في زمان ألهمتم فيه العمل وسيأتي قوم يلهمون الجدل وفي الخبر المشهور أبغض الخلق إلى الله تعالى الألد الخصم وفي الخبر ما أتى قوم المنطق إلا منعوا العمل والله أعلم .

التالي السابق


(وبالجملة) أي: حاصل الكلام (فالمرضي) المقبول (عند العقلاء) العرفاء (الأكياس أن تعد) وفي بعض النسخ: أن تقدر (نفسك في العالم وحدك مع الله تعالى) أنه العليم البصير المطلع على أمورك وحركاتك وسكناتك (وبين يديك الموت) كأنه اقترب (والعرض) بين يديه كأنك وقفت له (والحساب) على القليل والكثير (والجنة والنار) كأنهما قد أزلفتا (وتأمل) بفكرك (فيما يعينك) في تلك الأهوال الكائنة (فيما بين يديك) ، وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما قال له ابن عباس عند موته كأنه يزيل جزعه ويهون عليه الأمر بذكر محاسنه: لو أن تلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع، كما رواه البخاري من حديث ابن أبي مليكة عنه، وأخرج الخطيب في اقتضاء العلم من طريق يزيد بن إبراهيم سمعت الحسن يقول قال أبو الدرداء: ابن آدم اعمل كأنك تراه واعدد نفسك في الموتى واتق دعوة المظلوم (ودع عنك ما سواه) فإنه مضمحل وآيل إلى البطلان وهذه الكلمة القليلة جامعة لمحاسن علم التصوف ولقد أحسن من قال:

دع ما سوى الله فالأكوان قاطبة ظل يزول فلا تغررك زينتها

وقال آخر:


إذا رمت من تهوى دع الدنيا وأهملها

وقال آخر:


فمن سره أن لا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

(والسلام) على أهل التسليم (وقد رأى بعض الشيوخ بعض العلماء) ونص القوت: ورأى بعض [ ص: 277 ] أهل الحديث بعض فقهاء أهل الكوفة بعد موته (في المنام فقال له) ونص القوت: قال فقلت له: ما فعلت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي قال: 7 فكره وجهه وأعرض عني وقال: ما وجدناه شيئا ولا حمدنا عاقبته، وحدثونا عن نصر بن علي الجهضمي عن أبيه قال: رأيت الخليل بن أحمد في النوم بعد موته فقلت: ما أحد أعقل من الخليل لأسألنه فقال لي: رأيت ما كنا فيه فإني لم أره شيئا ما رأيت أنفع من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر .

وحدثونا عن بعض الأشياخ قال: رأيت بعض العلماء في المنام فقلت: (ما خبر) ونص القوت: ما فعلت (تلك العلوم التي كنت تجادل فيها وتناظر عليها) ونص القوت: كنا نجادل فيها ونناظر عليها قال: (فبسط يده ونفخ فيها وقال: طاحت) أي ذهبت (كلها هباء منثورا ما انتفعت إلا بركعتين خلصتا لي في جوف الليل) وفي القوت: حصلتا لي وهذا الذي أوردناه عن صاحب القوت: في سياق قصة الخليل، فقد أخرجه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب الاقتضاء من وجهين:

أحدهما من طريق عبد الله بن أحمد حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثني محمد بن خالد حدثني علي بن نصر يعني إياه قال: رأيت الخليل فساقه كما هو في القوت، ومن طريق أحمد بن عبد الله الترمذي سمعت نصر بن علي يقول: سمعت أبي يقول: رأيت الخليل بن أحمد في المنام، فقلت له: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، قلت: بما نجوت؟ قال: بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت: كيف وجدت علمك أعني العروض والأدب والشعر؟ قال: وجدته هباء منثورا .

(وفي الحديث: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) هكذا أورده صاحب القوت، بلا إسناد وقال العراقي: أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة قال الترمذي: حسن صحيح. اهـ .

قلت: أخرجاه من رواية حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة، وأبو غالب اسمه حزور، وقيل: سعيد بن حزور، وقد أخرجه أيضا الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في التفسير وصححه، والطبراني في الكبير، والضياء المقدسي في المختارة واللكائي في السنة كلهم من رواية ابن غالب عن أبي أمامة -رضي الله عنه- واقتصروا على الحديث وليس في سياقهم ثم قرأ إلخ إلا اللكائي فإنه ساقه بتمامه، وأقره الذهبي في التلخيص قال المناوي: يعني من ترك سبيل الهدى وركب سنن الضلال لم يمش حاله إلا بالجدل أي: الخصومة بالباطل، وقال القاضي في تفسيره المراد التعصب لتخريج المذاهب الفاسدة والعقائد الزائغة لا المناظرة لإظهار الحق واستكشاف الحال واستعلام ما ليس معلوما عنده فإنه فرض كفاية خارج عما نطق به الحديث. اهـ .

(وفي الحديث في معنى قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) (قال هم أهل الجدل الذين عناهم الله تعالى بقوله: فاحذرهم ) هكذا أورده صاحب القوت بلا سند وقال العراقي: متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. اهـ .

قلت: وكذا أبو داود والترمذي كلهم من رواية ابن أبي مليكة عن القاسم عنها بلفظ: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم. وقد رواه ابن ماجه من رواية أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة وفيه فقال: يا عائشة، إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم الحديث .

فلم يذكر بين ابن أبي مليكة وعائشة القاسم، والزيغ: الميل عن الاستقامة، والجدل: هو المخاصمة والمقاومة على سبيل المغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا فتلته فتلا محكما، فكان كلا المتجادلين يفتل صاحبه عن قوله إلى قوله، وقيل: أصله من الجدل وهو القوة فكان كلا المتجادلين يقوي قوله ويضعف قول صاحبه، وقيل: أصله من الجدالة وهي الأرض فكان كلا منهما يريد أن يصرع صاحبه ويجعله بمنزلة من يلقيه بالجدالة (وقال بعض السلف يكون في آخر الزمان قوم يغلق عليهم باب العمل ويفتح عليهم باب الجدل) أورده صاحب القوت، هكذا ونصه عن بعض السلف يكون في آخر الزمان علماء بدل قوم والباقي سواء (وفي بعض الأخبار إنكم في زمان ألهمتم فيه وسيأتي قوم يلهمون [ ص: 278 ] الجدل) هكذا أورده صاحب القوت بلا إسناد وقال العراقي: لم أجد له أصلا. اهـ .

من شواهده ما أخرجه الخطيب في الاقتضاء من طريق العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني أبي سمعت الأوزاعي يقول إذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم الجدل ومنعهم العلم، وأخرج اللكائي في السنة من رواية يحيى بن معين قال: حدثنا عثمان بن صالح حدثنا بكر بن مضر عن الأوزاعي فساقه إلا أنه قال: ألزمهم الجدل والباقي سواء، وأخرج الخطيب من طريق عبد الله بن حنيف سمعت إبراهيم البكاء يقول: سمعت معروف بن فيروز الكرخي يقول: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل واغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد لله بعبد شرا فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العمل (وفي الخبر المشهور) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أبغض الخلق إلى الله الألد الخصم) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. اهـ .

قلت: هكذا أورده صاحب القوت بلا إسناد وقد أخرجه أيضا الإمام أحمد والترمذي والنسائي كلهم من رواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة وسياقهم كلهم: أبغض الرجال، وقال الترمذي: حديث حسن، قال المناوي: وإنما خص الرجال لأن اللدد فيهم أغلب ولأن غيرهم تبع لهم في جميع المواطن، والألد هو الشديد الخصومة بالباطل الآخذ في كل لدد أي في كل شق من المراء والجدال، والخصم المولع بالجدال الماهر فيه الحريص عليه المتمادي فيه بالباطل هو يظهر أنه على الحسن الجميل ويوجه لكل شيء من خصامه وجها بحيث صار ذلك عادته فالأول ينبئ عن الشدة والثاني عن الكثرة (وفي الخبر ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل) . قال العراقي: لم أجد له أصلا. اهـ .

قلت: أورده صاحب القوت من طريق الحكم بن عيينة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رفعه قلت: عبد الرحمن بن أبي ليلى تابعي عالم الكوفة روى عن أبيه وعمر ومعاذ وعنه ابنه عيسى وحفيده عبد الله وثابت مات سنة 83 والصحبة لابن أبي ليلى، فهذا الحديث مرسل .




الخدمات العلمية