الأول: نقلا عن القطب ابن عربي، والثاني: نقلا عن عبد الكريم الجيلي، والثالث: نقلا عن الشيخ محمد المغربي شيخ الجلال السيوطي، وكل من الأجوبة الثلاثة قد أوردها شيخ مشايخنا سيدي أحمد بن مبارك السجلماسي في كتابه "الذهب الإبريز" وبسط الكلام عليه، ورأيت ذلك بعينه في تأليف الشعراني المذكور بخط أحد تلامذته .
قال أحمد بن مبارك: وقلت لبعض الفقهاء: ما قولك في قول أبي حامد: ليس في الإمكان أبدع مما كان؟ فقال: قد تكلم عليه الشعراني وغيره، فقلت: إنما أسألك عما عندك فيه، فقال لي: وأي شيء عندي فيه، فقلت: ويحك! إنها عقيدة، أرأيت لو قال القائل: هل يقدر ربنا جل جلاله على إيجاد أفضل من هذا الخلق؟ فقال: أقول له: إن فيقدر على إيجاد أفضل من هذا الخلق بألف درجة، وأفضل من هذا الأفضل، وهكذا إلى ما لا نهاية له، فقلت: وقوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان ينافي ذلك، فتفطن عند ذلك للعبارة المنسوبة [ ص: 33 ] مقدورات الله لا تتناهى، لأبي حامد رحمه الله تعالى .
وهكذا وقع لي مع كثير من الفقهاء فإذا سألتهم عن عبارة أبي حامد استشعروا جلالة قدره، فتوقفوا، فإذا بدلت العبارة، وعبرت بما سبق في سؤالنا للعامة جزموا بعموم القدرة، وعدم نهاية المقدورات .
قال: وقد اختلف العلماء في هذه المقالة المنسوبة إلى أبي حامد على ثلاث طرائق؛ فطائفة أنكرتها وردتها، وطائفة أولتها، وطائفة كذبت النسبة إلى أبي حامد، ونزهت مقامه عنها، والأولى هم المحققون من أهل عصره، ومن بعدهم، إلى هلم جرا، منهم تلميذه، فيما نقله أبو بكر بن العربي، أبو عبد الله القرطبي في شرح أسماء الله الحسنى ما نصه: قال شيخنا قولا عظيما، انتقده عليه أهل أبو حامد الغزالي العراق، وهو بشهادة الله موضع انتقاد، قال: ليس في القدرة أبدع من هذا العالم في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع منه وادخره لكان ذلك منافيا للجود، وأخذ ابن العربي في الرد عليه إلى أن قال: ونحن وإن كنا قطرة في بحره فإنا لا نرد عليه إلا بقوله، ثم قال: فسبحان من أكمل بشيخنا هذا فواضل الخلائق، ثم صرف به عن هذه الواضحة في الطرائق .
وممن سلك هذا المسلك ناصر الدين بن المنير الإسكندري، وصنف في ذلك رسالة سماها "الضياء المتلالي في تعقب الإحياء للغزالي". وقال: المسألة المذكورة لا تتمشى إلا على قواعد الفلاسفة والمعتزلة، وفي مناقضة هذه الرسالة ألف السيد السمهودي رسالة عظيمة نحو سبعة كراريس .
وممن نقل عنه إنكاره الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام، والإمام بدر الدين الزركشي، وقال: هذا من الكلمات العقم، التي لا ينبغي إطلاق مثلها في حق الصانع، والكمال بن أبي شريف، والبرهان البقاعي، وألف رسالة في المسألة، سماها "تهديم الأركان" وغيرهم .
والطائفة الثانية: وهم المنتصرون لأبي حامد والمؤولون لكلامه على وجه صحيح في ظنهم، فأول ذلك نفسه، فإنه سئل في زمانه عن هذه المسألة . الإمام أبو حامد
فأجاب بما هو مسطور في الأجوبة المسكتة، ومنهم محيي الدين بن عربي، وعبد الكريم الجيلي، ومحمد المغربي، نقل عنهم الشعراني كما سبقت الإشارة إليه، ومنهم الإمام جلال الدين أبو البقاء محمد البكري الشافعي، والبدر الزركشي أيضا، والشيخ سيدي أحمد زورق في شرح قواعد العقائد للمصنف، والبرهان بن أبي شريف أخو الكمال، المتقدم في الطائفة الأولى، والشيخ أبو المواهب التونسي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والحافظ جلال الدين السيوطي، وألف رسالة ناقض بها على البرهان البقاعي، سماها "تشييد الأركان" .
قلت: وقد سئل عن هذه المسألة كل من مشايخنا: القطب نجم الدين أبي المكارم محمد بن سالم الحفني الشافعي، نفعنا الله به، والسيد القطب أبي المراحم عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس، نفعنا الله به، فأجابا بتأويل كلامه على أحسن المظنات .
والطائفة الثالثة: وهم الذاهبون إلى عدم نسبة المقالة إلى أبي حامد، وأنها مدسوسة في كتبه، ومستندهم في ذلك أنهم عرضوها على كلامه في كتبه فوجدوها مع كلامه على طرفي النقيض، والعاقل لا يعتقد النقيض فضلا عن أبي حامد، وعباراته التي هي مناقضة لتلك المقالة في مواضع من كتابه الإحياء، وفي المنقذ من الضلال، وفي المستصفى، مما تصدى لجمعها جميعا البرهان البقاعي في رسالته المذكورة .
هذا خلاصة ما أشار إليه سيدي أحمد بن مبارك السجلماسي، ولم نطول بنصوص الأجوبة وما نوقضت به؛ لما فيه من الإسهاب المخل في هذه المقدمة أمام الكتاب، وعسى أن نلم بتفصيل كلامهم إن شاء الله تعالى في كتاب التوكل، والله على ما يشاء قدير .
وقال القطب الشعراني في كتابه "الأجوبة المرضية": ومما أنكروه على قوله: يباح للصوفية تمزيق ثيابهم عند غلبة الحال إن قطعت قطعا مربعة، تصلح لترقيع الثياب والسجادات، كما يجوز تمزيق الثوب ليرقع به قميص آخر . الغزالي
قال المنكر: ولقد عجبت من هذا الرجل -يعني كيف استلبه حب الغزالي- حتى ذهل عن أصول الفقه، ومذهب مذهب الصوفية واختار بدع الصوفية على مذاهب الأئمة؟ الشافعي،
والجواب: أنه لا ينبغي الإنكار عليه بموافقة الصوفية في هذه المسألة؛ فإن ذلك غرض صحيح في معاملة أرباب القلوب؛ فإن الصوفي لولا رأى صلاح قلبه، وحضور قلبه مع الله تعالى بذلك ما مزق ثوبه، بل كان هو ينكر على من فعل ذلك .
وبالجملة فلو كان جميع أموال الدنيا وأمتعتها بيد الفقير، ورأى حضور قلبه مع الله تعالى لحظة بإتلافها كلها بحرقها أو رميها في بحر لكان له ذلك بطريق [ ص: 34 ] الاجتهاد، ولا لوم إلا على من يمزق ثيابه ويتلف ماله إسرافا وسفها، ولكل مقام رجال، وأنشدوا:
لو ذاق عاذلي صبابتي صبا معي لكنه ما ذاقها
فاعلم ذلك والزم الأدب مع حجة الإسلام في دولتي الظاهر والباطن .قال: ومما أنكروا عليه قوله في الإحياء: المقصود بالرياضة تفريغ القلب وليس ذلك إلا بالخلوة والجلوس في مكان مظلم، فإن لم يكن مظلما لف رأسه في جيبه، أو تدثر بكساء أو رداء، فإنه في مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق تعالى، ويشاهد جلال الربوبية .
قال المنكر: انظروا إلى هذه الترهات العجيبة وكيف صدرت من فقيه؟! ومن أين له أن الذي يسمعه إذ ذاك هو نداء الحق تعالى؟ أو أن الذي يشاهده جلال الربوبية؟! وما يؤمنه أن يكون ما يجده هو من الوساوس والخيالات الفاسدة؟! وهذا هو الغالب ممن يستعمل التقلل في المطعم فإنه يغلب عليه الماليخوليا .
والجواب: أن ما قاله تبعا لغيره صحيح، لكن له شروط عند أهل الطريق من بلوغه في الورع الغاية القصوى، ومداومة مراقبة الله مع الأنفاس، وعدم شغل قلبه بنعيم الدنيا والآخرة، وهناك يخرج العبد من مواطن التلبيس من النفس والشيطان، وتصير روحه ملكية، فيشاهد جلال الربوبية، كما تشاهده الملائكة، وكل من دخل الخلوة على مصطلح أهل الله عرف ما أقول، ومن لم يدخل فهو معذور في إنكاره لعدم وجدانه ما ذكره الغزالي في نفسه . الغزالي
ومما أنكروا عليه أيضا تقريره في الإحياء قول إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في طلب المعاش، أو تزوج، فقد ركن إلى الدنيا . أبي سليمان الداراني:
قال المنكر: هذه الثلاثة أشياء مخالفة لقواعد الشريعة، وكيف لا يطلب الحديث، وقد ورد: وكيف لا يطلب المعاش، وقال "وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم"؟! -رضي الله عنه-: "لأن أموت من سعي رجلي أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازيا في سبيل الله"؟! وكيف لا يطلب التزويج وصاحب الشرع -صلى الله عليه وسلم- يقول: عمر فما أدري هذه الأوضاع من الصوفية إلا على خلاف الشرع . "تناكحوا تناسلوا"؟!
والجواب: إن مثل الإمام لا يجهل مثل هذه الأمور بدليل مدحها في مواضع أخر من كتاب الإحياء، وإنما مراده أن الدخول في هذه الأمور من لازمه غالبا دخول الآفات التي تحبطها؛ فإن من طلب الحديث لزمته الرياضة، وصار مقدما عند الناس في التعظيم والإكرام، على من لم يطلبه، وقل من يتخلص من الميل أو المحبة لمثل ذلك . الغزالي
وأما التجارة والبيع والشراء مع الخلاص من الميل إلى الدنيا فلا يكون إلا ممن كمل سلوكه، ودخل حضرة الله، وعرف المواقع كلها. فكلام أبي سليمان جرى على الغالب، فلا لوم على الغزالي في تقريره .
وأما كون التزويج من جملة الميل إلى الدنيا فهو ظاهر; لأنه في الغالب يطلب للاستمتاع، وذلك لا يحصل إلا بالوقوع في الآفات التي كان عنها بمعزل أيام عزوبته، لا سيما إن كان تجردا عن القيام في الأسباب التي تجلب له أمر معاشه، فإنه يتلف بالكلية، ويلزمه الرياء لكل من أحسن إليه بلقمة أو خرقة أو غيرهما، فأبغض الخلق إليه من يذمه عنده؛ خوفا أن يتغير اعتقاده فيه، فيقطع عنه بره، فكأن عبادة هذا كلها لأجل الذي أحسن إليه، وفي الحديث: أي: الذي لا زوجة له ولا ولد، وفي الحديث أيضا "خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ" "سيأتي على أمتي زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وولده" فذكر الحديث إلى أن قال: "وذلك أنهم يعيرونه بضيق المعيشة إلى أن يورده موارد الهلاك" .
وقد استشار شخص سيدي عليا الخواص في التزويج، فقال له: شاور غيري، فقال له فقيه: ما منعك أن تشير عليه بفعل السنة؟ فقال له الشيخ: أنت ما حفظت إلا كونه سنة، أما تنظر الآفات المترتبة عليه من هلاك الدين، وأكل الحرام، والشبهات؟! فاعلم ذلك .