الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثاني شعر الشارب وقد قال صلى الله عليه وسلم : قصوا الشارب وفي لفظ آخر : جزوا الشوارب وفي لفظ آخر : حفوا الشوارب وأعفوا اللحى أي اجعلوها حفاف الشفة ، أي : حولها وحفاف الشيء حوله ومنه وترى الملائكة حافين من حول العرش وفي لفظ آخر احفوا وهذا يشعر بالاستئصال وقوله : حفوا يدل على ما دون ذلك .

وقال الله عز وجل إن يسئلكموها : فيحفكم تبخلوا أي يستقصي عليكم وأما الحلق فلم يرد .

والإحفاء القريب من الحلق نقل عن الصحابة نظر بعض التابعين إلى رجل أحفى شاربه فقال : ذكرتني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال المغيرة بن شعبة نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد طال شاربي فقال تعال فقصه لي على سواك ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب فعل ذلك عمر وغيره لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام إذ لا يصل إليه وقوله صلى الله عليه وسلم اعفوا اللحى أي كثروها وفي الخبر إن اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم فخالفوهم وكره بعض العلماء الحلق ورآه بدعة .

.

التالي السابق


(الثاني شعر الشارب) ، وهو ما سال على الشفة العليا (وقد قال صلى الله عليه وسلم : قصوا الشوارب) واعفوا اللحى وهي رواية أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة (وفي لفظ آخر : جزوا الشوارب) وهي رواية مسلم عن حديثه (وفي لفظ آخر : حفوا الشوارب واعفوا اللحى ) ولم أر من خرج هذا اللفظ غير ما في كتاب القوت إلا أن معناه في المتفق عليه يقال : حف شاربه إذا أحفاه وحفت المرأة وجهها حفا زينته بأخذ شعره وفسره المصنف بقوله : (أي اجعلوها حفاف الشفة ، أي : حولها) وحفاف جمع حاف (وحفاف الشيء حوله) من حف القوم بالبيت أطافوا به فهم حافون وعبارة القوت أي اجعلوا حفاف الشفة ، أي : حولها ؛ لأن حفاف الشيء حوله (ومنه) قوله تعالى : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) ، أي : مطيفين به (وفي لفظ آخر حفوا) الشوارب من الثلاثي المزيد وهي رواية الشيخين من حديث ابن عمر يقال : أحفى شاربه إذا بالغ في قصه (وهذا يشعر بالاستئصال) وإليه ذهب ابن عمر وبعض التابعين ، وهو قول الكوفيين وأكثر الصوفية حتى قال بعضهم : من أحفى شاربيه نظر الله إليه واستدلوا بما تقدم من قوله : أحفوا وجزوا وبرواية البخاري أيضا انهكوا الشوارب (وقوله : حفوا) الشوارب (يدل على ما دون ذلك) ، وهو المختار في صفة قصه أن يقص منه حتى يبدو طرف الشفة ، وهو حمرتها ولا يحفيه من أصله ، وهو قول مالك والشافعي ، وكان مالك يرى حلقه مثلة ويأمر بأدب فاعله ، وكان يكره أن يأخذ من أعلاه (قال الله عز وجل : إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا أي يستقصي عليكم) من أحفاه في المسألة بمعنى ألح وألحف واستقصى (وأما الحلق فلم يرد) وتقدم أن مالكا كان يراه مثلة ويأمر بأدب فاعله قلت : ومن جهة الورود فقد ورد فيما رواه النسائي من حديث أبي هريرة خمس من الفطرة فذكر وحلق الشارب فقول المصنف لم يرد فيه نظر إلا أنه يحمل على الإحفاء القريب من الحلق لئلا تتضاد الروايات وإليه أشار المصنف بقوله : (والإحفاء القريب من الحلق) ، وهو المعبر عنه بالاستئصال فقد (نقل) ذلك (عن) جماعة من (الصحابة) رضوان الله عليهم منهم ابن عمر ، فإنه كان يرى استحباب استئصاله (نظر بعض التابعين رجلا أحفى شاربه فقال : ذكرتني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال : هكذا كانوا يحفون شواربهم فقال : نعم كذا في القوت ، وهو دليل قوي للكوفيين ، وقد أجمعوا على استحباب القص وخالفهم الظاهرية فقالوا بوجوبه وتقدم المختار في صفة قصه والقائلون به حملوا رواية اعفوا وانهكوا وجزوا على القص وبعضهم [ ص: 409 ] حمل على إحفاء ما طال على الشفتين ويدل على أن المراد التقصير لا الاستئصال رواية النسائي من حديث أبي هريرة خمس من الفطرة فذكر وتقصير الشارب ، لكن يعكر عليه رواية: وحلق الشارب وأشار المصنف إلى دليل التقصير بقوله : (وقال المغيرة بن شعبة ) الثقفي الصحابي شهد الحديبية وولي الكوفة مرات وبرأيه ودهائه يضرب المثل روى عنه بنوه وعروة والشعبي وزياد بن علاقة مات سنة خمسين من الهجرة (نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد طال) ، وفي القوت ، وقد عفا (شاربي فقال تعال فقصه لي على السواك) رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وإسناده صحيح ووجه الاستدلال به أنه لو كان المراد استئصاله لما وضع السواك حتى يقطع ما زاد عليه ، وقال العراقي في شرح التقريب : وذهب بعض العلماء إلى أنه مخير بين الأمرين حكاه القاضي عياض ، ثم اختلفوا في كيفية قص الشارب هل يقص طرفاه أيضا وهما المسميان بالسبالين أم يتركان ، كما يفعله كثير من الناس ، وقد أشار إلى ذلك المصنف بقوله : (ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب) عن يمين ، وعن شمال (فعل ذلك عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (وغيره) من الصحابة والتابعين منهم الحسن بن سالم ، كما في القوت (لأن ذلك لا يستر الفم) لبعدهما عنه (ولا يبقى فيه غمر الطعام) ، أي : زفره (إذ لا يصل إليه) وقت الأكل وفهم من ذلك أن سبب قص الشوارب هاتان العلتان ، وروى أبو داود من رواية أبي الزبير عن جابر قال : كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة وكره بعضهم بقاء السبال لما فيه من التشبه بالأعاجم ، بل المجوس وأهل الكتاب قال العراقي في شرح التقريب : وهذا أولى بالصواب لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال : إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم فكان ابن عمر يجز سباله ، كما يجز الشاة والبعير (وقوله صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي تقدم ذكره ، وهو قصوا الشوارب (واعفوا اللحى) ، أي : (كثروها) يجوز استعماله ثلاثيا ورباعيا قال السرقسطي : يقال : عفوت الشعر أعفوه عفوا وعفيته وأعفيته إذا تركته حتى يكثر ويطول (وفي الخبر أن اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم فخالفوهم ) رواه أحمد في مسنده في أثناء حديث لأبي أمامة فقلنا : يا رسول الله ، فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب والعثانين جمع عثنون وهي اللحية قال العراقي : والمشهور أن هذا من فعل المجوس لما تقدم من حديث ابن عمر عند ابن حبان قريبا (وكره بعض العلماء الحلق) ، أي : حلق السبال (ورآه بدعة) ومثلة .



(تنبيهات)

الأول : يستحب الابتداء بقص الجهة اليمنى من الشارب ، كما صرح به الأصحاب لحديث عائشة المتفق عليه كان يعجبه التيمن في تطهيره وترجله وتنعله ، وفي شأنه كله .

الثاني : يجوز في قص الشارب أن يباشر ذلك بنفسه وأن يقصه له غيره لحديث المغيرة بن شعبة المتقدم عند أبي داود ؛ إذ لا هتك حرمة في ذلك ولا نقص مروءة .

الثالث : قال صاحب القوت : وقد روينا في حديث قص الشوارب ألفاظا أخر منها خذوا الشوارب وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ شاربه ، ومنها طروا الشوارب طرا والطر أن يؤخذ من فوق الشارب ، ومن تحته حتى يستدق قال : وهي لفظة غريبة .




الخدمات العلمية