الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فكانت عنايتهم كلها بنظافة الباطن حتى قال بعضهم : الصلاة في النعلين أفضل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزع نعليه في صلاته بإخبار جبريل عليه السلام له أن بهما نجاسة وخلع الناس نعالهم قال صلى الله عليه وسلم لم خلعتم نعالكم وقال النخعي في الذين يخلعون نعالهم وددت لو أن محتاجا جاء إليها فأخذها منكرا لخلع النعال .

فهكذا كان تساهلهم في هذه الأمور بل كانوا يمشون في طين الشوارع حفاة ويجلسون عليها ويصلون في المساجد على الأرض ويأكلون من دقيق البر والشعير وهو يداس بالدواب وتبول عليه ولا يحترزون من عرق الإبل والخيل مع كثرة تمرغها في النجاسات ولم ينقل قط عن أحد منهم سؤال في دقائق النجاسات فهكذا كان تساهلهم فيها .

وقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة فيقولون هي مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيينهم الظواهر كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب مشحون بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق ولا يستنكرون ذلك ولا يتعجبون منه ولو اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر أو مشى على الأرض حافيا أو صلى على الأرض أو على بواري المسجد من غير سجادة مفروشة أو مشى على الفرش من غير غلاف للقدم من أدم أو توضأ من آنية عجوز أو رجل غير متقشف أقاموا عليه القيامة وشدوا عليه النكير ولقبوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مؤاكلته ومخالطته .

فسموا البذاذة التي هي من الإيمان قذارة والرعونة نظافة فانظر كيف صار المنكر معروفا والمعروف منكرا وكيف اندرس من الدين رسمه ، كما اندرس حقيقته وعلمه .

التالي السابق


(فكانت عنايتهم بنظافة الباطن) أشد ولا يبالون بخراب الظاهر في المأكل والملبس والمشرب وغيرها (حتى قال بعضهم: الصلاة في النعلين أفضل) والنعل ما وقيت به القدم عن الأرض وفي حكمه الخف والمداس، وسبب أفضلية الصلاة في النعال; لأنها أقرب إلى التواضع والمسكنة وأبعد من الترفه (إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزع نعليه في الصلاة وأخبره جبريل) عليه السلام (أن بهما نجاسة) أي بأحدهما وفي نسخة نعله في الصلاة، وفي نسخة إذ أخبره جبريل أن عليه نجاسة (وخلع الناس نعالهم) وهم في الصلاة (قال صلى الله عليه وسلم) لما رأى ذلك منهم (لم خلعتم نعالكم) كالمنكر عليهم في فعلهم ذلك، قال العراقي: أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري. . قلت: وابن حبان وأبو يعلى وإسحاق مختصرا، كما أشار إليه الحافظ، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم نزع نعله بعمل قليل وأتم صلاته من غير استئناف ولا إعادة، وعلم من هذا أنهم كانوا يصلون في نعالهم وفي الحواشي الخبازية على الهداية في الحديث بعد قوله عليه السلام: ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال عليه السلام: أتاني جبريل فأخبرني أن بهما أذى فمن أراد أن يدخل المسجد فليقلب نعليه، فإن رأى بهما أذى فليمسحهما، فإن الأرض لهما طهور، وفي رواية: ثم ليصل. قلت: وهذه الجملة أخرجها أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة بمعناها، وأخرج منها رواية أبي داود: إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب لها طهور.

(وقال) إبراهيم بن يزيد (النخعي) رحمه الله تعالى (في الذين يخلعون نعالهم) عند دخولهم في الصلاة أو في المساجد للصلاة: (وددت) أي أحببت (لو أن محتاجا جاء وأخذه) وفي بعض النسخ جاء إليها وأخذها قال ذلك (منكرا) عليهم (خلع النعال) ، ثم إذا خلع نعليه وقام إلى الصلاة هل يضعهما بين يديه أو في موضع آخر، الأول أحسن، أو على يمينه أو شماله ما لم يؤذ رفيقا أو ما لم تكن فيهما نجاسة ظاهرة فتؤذي رائحتها المصلين، ومن أقوال العامة: النعلين تحت العينين، وأما ما ورد في بعض الأخبار: إذا ابتلت النعال فصلوا في الرحال. فقال ابن الأثير: المراد بالنعال هنا جمع نعل وهي الأكمة الصغيرة لا النعال التي تلبس، وقد بينت ذلك في شرح القاموس (فهكذا كان تساهلهم في هذه الأمور) الظاهرة وعدم تعمقهم فيها (بل كانوا [ ص: 310 ] يمشون في طين الشوارع) جمع شارعة هي الطريق المسلوكة للناس عامة والدواب (حفاة) من غير نعل (ويجلسون عليها) كذا في النسخ أي على الشوارع، والأولى تذكير الضمير ليعود على الطين وهذا أقرب إلى التواضع لكونهم خلقوا من التراب ويعودون إليه (ويصلون في المساجد) المفروشة بالرمل والحصى (على الأرض) من غير حائل (ويأكلون من دقيق البر والشعير وهو) أي البر والشعير (يداس بالدواب) أي بأرجلها لينفصل الحب من قشره (وتبول عليه) وتتغوط فما كانوا يسألون عن ذلك ولا يدققون (ولا يحترزون من عرق الإبل والخيل) ، وكذا الحمير والبغال يصيب ثوبهم عند ركوبهم إياهما عريا من غير حائل (مع كثرة تمرغها في النجاسات) والمواضع القذرة (ولم ينقل قط عن واحد منهم) إلينا (سؤال في دقائق النجاسات) ولا استقصاء فيها (وهكذا كان) وفي بعض النسخ بل هكذا كان (تساهلهم فيها وقد انتهت النوبة الآن) أي في حدود الأربعمائة والتسعين (إلى طائفة) أي جماعة (يسمون الرعونة نظافة) والرعونة إفراط الجهالة وأيضا الوقوف مع حظ النفس مقتضى طباعها (ويقولون هي مبنى الدين) وعليها أسست أركانه (فأكثر أوقاتهم) على ما يرى (في تزيينهم الظواهر) وإصلاحها من ملبوس ومأكول ومركوب (كفعل الماشطة) هي القينة (بعروسها و) الحال أن (الباطن) منهم (خراب) يباب، نعم هو (مشحون) أي مملوء (بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق) وهي المهلكات (ولا يستنكرون ذلك) من أنفسهم بل (ولا يتعجبون منه) وهو محل العجب (ولو) فرض أنه (اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر) فقط، كما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم تارة (أو مشى على الأرض حافيا) بلا نعل (أو صلى على الأرض) بلا فرش شيء (أو) صلى (على بواري المسجد) هي جمع بوريا وهي الحصيرة فارسية (من غير سجادة) وهي الطنفسة والزربية والمفرش، وقوله (مفروشة) أي على ذلك الحصير (أو مشى على الفرش من غير غلاف للقدم من أدم) أي جلد مدبوغ، كما كانت الأوائل تفعل ذلك (أو توضأ من آنية) نصرانية (عجوز) ، كما فعله عمر رضي الله عنه، والتصريح بلفظ عجوز وقع في السنن للبيهقي من رواية زيد بن أسلم، كما تقدم (أو) توضأ من آنية (رجل غير متقشف) أي غير متدين (أقاموا عليه) وفي بعض النسخ فيه (القيامة) أي أهوالا مخيفة كأهوال القيامة (وشددوا عليه النكير) ، وهو بمعنى الإنكار (ولقبوه بالقذر) ككتف من قام به القذر أي الوسخ (وأخرجوه من زمرتهم) وأسقطوه من أعينهم ونسبوه إلى عدم المعقول وقلة الآداب (واستنكفوا) تنزهوا (عن مؤاكلته) على موائدهم (و) عن (مخالطته) في مجالسهم (فسموا البذاذة) وهي رثاثة الهيئة (التي هي من) جملة (الإيمان) فيما أخرجه البخاري في الأدب ومسلم في الصحيح والترمذي من حديث أبي أمامة الحارثي: البذاذة من الإيمان (قذارة و) سموا (الرعونة) التي هم فيها (نظافة فانظر) أيها المتأمل في تخالف الأشياء (كيف صار المنكر معروفا والمعروف منكرا) انقلبت الأعيان فالله المستعان (وكيف اندرس من الدين رسمه، كما اندرس تحقيقه) وفي نسخة حقيقته (وعلمه) ولم يبق إلا اسمه ووسمه وقد أورد صاحب القوت هذا البحث مختصرا في بيان ما أحدثه الناس من البدع التي لم تكن في زمانه صلى الله عليه وسلم ولا زمان أصحابه فقال وشددوا أيضا في الطهارة بالماء وتنظيف الثياب وكثرة غسلها من عرق الجنب ولبس الحائض ومن أبوال ما يؤكل لحمه وغسل يسير الدم ونحو ذلك، وكان السلف يرخصون ذلك .




الخدمات العلمية