الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فى زكاة الغنم

                                                                                                                                                                                        الأصل فيها قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان ، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه ، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة ، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة ، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" . أخرجه البخاري في صحيحه . فوقت - صلى الله عليه وسلم - في الغنم أربعة نصب : أربعين ، وإحدى وعشرين ومائة ، ومائتين وواحدة ، ثم العدد بالمئين في كل مائة شاة ، وأوجب في النصاب شاة ، وفي النصابين شاتين .

                                                                                                                                                                                        ولم يأت بيان في سنها ولا في صفتها من طريق صحيح علمته . واختلف في ذلك على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                        فقال ابن القاسم وأشهب في المجموعة : يؤخذ الجذع والجذعة ، والثني والثنية ، والضأن والمعز في ذلك سواء . وهذا ظاهر المدونة .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو الحسن ابن القصار : الواجب عندنا الإناث من الجذعة والثنية . وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة : يجوز أن يؤخذ الجذع ، كما يجوز أن تؤخذ [ ص: 1012 ] الثني ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "خذ الجذعة والثنية" .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب : يؤخذ الجذع من الضأن فصاعدا ، وهو ابن سنة تامة والثنية ، من المعز ؛ وهما اللذان يجوزان في الأضاحي . ولا يجوز أن يكون ذكرا ؛ لأنه تيس ، وقد نهي عن أخذه إلا أن يكون تيسا من كرائم المعز ، فيلحق بالفحول ، فيؤخذ إن طاع به ربه .

                                                                                                                                                                                        والقول : إن الواجب جذعة أو ثنية من الضأن والمعز ، أحسنها ؛ لوجوه ثلاثة :

                                                                                                                                                                                        أحدها : أنه مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان سنده ليس بالقوي .

                                                                                                                                                                                        والثاني : أنه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، والأشبه أنه قال ذلك لما مضى عليه من العمل ؛ لأن زكاة الماشية مما تقدم العمل بها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                        والثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في زكاة الإبل أربع أسنان كلها إناث : بنت مخاض ، وبنت لبون ، وحقة ، وجذعة ، ولم يجز فيها ذكر إلا ابن لبون عند عدم بنت مخاض ، فأجاز أن يؤخذ ذكر يزيد سنة عن الأنثى التي تجب في تلك الفريضة ، فيعلم أن المقصود من الزكاة الإناث ؛ ولأن الغالب فيما يكون في كسب الإنسان من الإبل والغنم الإناث . فوجب أن يخرج من الغالب في كسبه . [ ص: 1013 ]

                                                                                                                                                                                        فأما قول ابن حبيب وقياسه الزكاة على الأضاحي فغير صحيح ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبان أن الأصلين مفترقان ، وأوجب الزكاة في أربع أسنان من الإبل ليس فيها شيء يجزئ في الأضاحي ، وأوجبها في البقر في سنين : أحدهما يجزئ في الأضاحي ، والآخر لا يجزئ ؛ فعلم بذلك أنهما أصلان لا يقاس أحدهما على الآخر .

                                                                                                                                                                                        وإذا كان الواجب جذعة أو ثنية ، فعلى القول : إن الأمر في الأخذ للمصدق ، يكون له أن يأخذ الثنية ويدع الجذعة . وعلى القول الآخر يكون فيه الأمر إلى صاحب الغنم ، فيدفع الجذعة ويمنع من الثنية وإن كره المصدق . وهذا إذا كانت الغنم مختلطة صغارا وكبارا وجيدة ورديئة ، فإنه يأخذ الجذعة والثنية . قال عمر - رضي الله عنه - : وذلك عدل بين غذاء الغنم وخيارها .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كانت جنسا واحدا- خيارا كلها : ربى أو أكولة ، أو مواخض ، أو علوفة كلها ، أو فحولا ، أو دنية كلها عجافا ، أو ذوات عوار ، أو سخالا ، على أربعة أقوال : فقال مالك في المدونة : إنها كالمختلطة ، [ ص: 1014 ] ويأتي ربها بزكاتها من غيرها . ولمطرف في ثمانية أبي زيد مثل قول مالك إذا كانت ربى ، أو مواخض ، أو أكولة ، أو سخالا ، أو فحولا ، أنه لا يؤخذ منها . وخالف إذا كانت عجافا كلها ، أو كانت ذات عوار ، أو تيوسا . فقال : يأخذ منها عجفاء ، أو ذات عوار ، أو تيسا . وقال ابن الماجشون في الثمانية : يؤخذ منها وإن كانت ربى أو مواخض ، أو أكولة أو عجافا أو ذات عوار ؛ إلا أن تكون فيها جذعة أو ثنية ، ووافق إذا كانت سخالا أنه لا يأخذ منها .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن عبد الحكم في جميع هذه الأصناف التي تقدم ذكرها ، وفي السخال : لولا خلاف أصحابنا لكان بينا أن تؤخذ منها واحدة من أوسطها ، ولا يكون عليه ثنية ولا جذعة . قال : وقول عمر تؤخذ الجذعة والثنية ؛ لأنه العدل بين غذاء المال والخيار .

                                                                                                                                                                                        يريد : أن قول عمر خرج على ما يكون عليه الغنم في الغالب أنها خيار وشرار ، وكبار وصغار . فإن كانت غنما على خلاف المعتاد فكانت جنسا واحدا أخذ منها ، وأجريت على الأصل في زكاة الأموال أنها منها ، إلا ما ورد النص أنه من غيره ، وكانت كالتمور في أحد الأقوال : إن كانت جنسا واحدا أخذت زكاته منه ، وإن كانت أجناسا كانت من الوسط . [ ص: 1015 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف عن مالك إذا كانت أغنام الناس كلها عجافا لجدب نزل بهم . فروى ابن وهب عنه أنه قال : يؤخذ منها . وروى عنه أشهب أنه قال : لا يؤخذ ، ولا يبعث السعاة سنة الجدب . وقال : لأنه يأخذ ما ليس له هناك ثمن ، وإن جلبه لم ينجلب . قال : وإنما ذلك نظر للمساكين ، وليس لأهل المواشي .

                                                                                                                                                                                        وأرى إذا كانت الغنم قريبة من العمران ، أو بعيدة ولها بالمكان الذي هي به ثمن ، جلبت هذه ، وبيعت هذه . وإن كانت على بعد ولا ثمن لها إن بيعت هناك تركت لقابل . وتكون الزكاة على تعليله معلقة بأعيان الماشية المزكاة ، لا في الذمة . فإن هلكت الغنم أو غصبت لم يكن على صاحب الغنم شيء . فإن هلك بعضها كان المساكين شركاء في الباقي بقدر الشاة .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كانت الغنم مختلطة جيادا ورديئة ، فأراد المصدق أن يأخذ ذات عوار ؛ لأنه أفضل للمساكين بغير رضا صاحب الماشية ، فأجاز ذلك ابن [ ص: 1016 ] القاسم ، ومنعه محمد إلا برضاه والأول أبين ؛ لأن الأصل في ترك ذوات العوار لم يكن لحق صاحب الماشية .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا ضربت فحول الظباء إناث الغنم فتوالدت ، هل تزكى سخالها ؟ وهل يتم بها النصاب . فأوجب ذلك أبو الحسن ابن القصار ، ومنعه محمد بن عبد الحكم ، وسواء كان الولد شبيها بالأم أو بالفحل ، والأول أبين ، إذا كان الولد شبيها بالأم . ولا أعلمهم يختلفون لو ضربت فحول الغنم إناث الظباء ، أن سخالها لا تضاف إلى الفحول ، ولا يتم بها نصابها ؛ لأن الولد إنما يضاف في الزكاة إلى الأمهات ، وعلى حولها يجري . [ ص: 1017 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية