الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في البيع على البراءة، وما لا تصح منه البراءة أو تصح

                                                                                                                                                                                        واختلف في ذلك في خمسة مواضع، هل تجوز البراءة من العيوب القديمة؟ واذا أجيزت، هل ذلك في جميع المبيعات أو في بعضها؟ وهل يجوز ذلك فيما قرب ملك بائعه له، أو حتى يطول ملكه له؟ وهل تصح البراءة من كثير العيب أو لا تجوز إلا من قليله؟ وهل تجوز من جميع البائعين، أو من بعضهم دون بعض؟

                                                                                                                                                                                        فقال مالك مرة: لا يجوز بيع البراءة ولا يبرأ البائع، أي صنف كان المبيع. وقال أيضا: يجوز في كل المبيعات. وقال ابن حبيب: يجوز ذلك في كل شيء، الرقيق والحيوان والعروض. وبه حكم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومروان بن الحكم، وعمل به عبد الله بن عمر، وقال به مالك في أول زمانه، وأخذ به ابن وهب وغيره ثم رجع، فقال: لا يجوز ذلك إلا في الرقيق وحده. وقال مالك -في كتاب محمد: يجوز في الرقيق والحيوان دون غيرهما.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول بالمنع إذا وقع البيع بشرط البراءة، فقال أشهب -في كتاب محمد: إن وقعت البراءة في الحيوان لم أفسخه، ويفسخ في العروض إلا أن يتفاوت ويتباعد فلا يفسخ. قال محمد: وابن القاسم يخالفه ويقول: الشرط [ ص: 4436 ] باطل. والقول بفسخ جميع ذلك وأنه غرر أحسن.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك: لا أحب البراءة في رأس لم تطل إقامته عنده ولم يختبره.

                                                                                                                                                                                        وقال في المدونة: لا أرى البراءة تنفع في بيع الميراث ولا غيره، ومن ذلك: الرجل يأتيه الرقيق قد جلب إليه فيقول: أبيعكم بالبراءة ولا علم لي، فقد صدق فلا علم له ولم يكشف ثوبا، فهو يريد أن يذهب بأموال الناس بهذا الوجه، فلم أر البراءة تنفعه؛ لأنه لم تطل إقامته.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم: الذي آخذ به أن كل رأس يعرف أنه كان يختبره، فالبراءة تنفعه. وقال أشهب: إن وقعت البراءة في رأس لم تطل إقامته ولم يختبره لم أفسخه. وقال ذلك عبد الملك بن الماجشون، قال: وقد يبيع الورثة ما ورثوا، ومنهم الغائب والقاصي فلم يطلع فيبيع مكانه فيكون بيعه بيع براءة.

                                                                                                                                                                                        وأما القدر الذي تصح البراءة منه، فقال مالك -في كتاب محمد: ليس فيه حد لصغر عيب ولا لكبره. وقال -في كتاب ابن حبيب: يبرأ وإن أتى العيب على جل ثمنه. وعن المغيرة أنه قال: إن جاوز العيب ثلث ثمنه، [ ص: 4437 ] رد. وقال ابن القاسم عن مالك: أنه رجع إلى أنه لا يجوز إلا أن يكون خفيفا. يريد: أنه كان يجيزه وإن كان كثيرا.

                                                                                                                                                                                        وأما مراعاة البائعين فساوى بينهم في الإجازة والمنع مرة، وفرق مرة فأجازه إن كان بيع السلطان للغرماء ولأهل الميراث؛ لأن الديون تقضى والوصايا تنفذ، وقال أيضا: إنما كانت البراءة لأهل الديون يفلسون، فيبيع السلطان عليهم.

                                                                                                                                                                                        وذكر ابن القاسم: أنه اختلف قوله في بيع السلطان، قال سحنون: وكان قوله القديم في بيع الرقيق بيع ميراث، وبيع سلطان على من قد فلس: إن أصاب بهم عيبا أو ماتوا في الأيام الثلاثة، أو أصابهم جنون أو جذام أو برص في السنة، لزم المشتري. يريد: أنه اختلف قوله في ذلك وإن كان بيع سلطان. وقال أيضا -فيمن فلس فاشترى رجل من السلطان عبدا، فأصاب به عيبا: رده على الغرماء.

                                                                                                                                                                                        فأما إجازته البراءة في سائر المبيعات، ومن جميع البائعين، وفي قليل العيب وكثيره، فاستسلاما لما ذكره ابن حبيب من العمل.

                                                                                                                                                                                        ومنع ذلك جملة في القول الآخر؛ لأنه غرر، يقول: إن كان سالما فلك، وإن كان معيبا فعليك. ومعلوم أن ثمن المعيب غير ثمن السالم، فقدم [ ص: 4438 ] القياس. وفرق في القول الآخر بين القليل والكثير، لعظم الغرر في الكثير، وخفته في اليسير.

                                                                                                                                                                                        وفرق بين الحيوان وغيره؛ لأن الغالب من الحيوان أنه يطلع على عيبه، فالعبد يذكر ما يجده أو يظهر المرض عليه، والدابة يظهر ما يرى من كللها أو قلة أكلها، والغالب إذا لم يظهر ذلك السلامة، وليس كذلك الثوب إذا كان مطويا، فلا يدري البائع ولا المشتري على ماذا وقع البيع، فرأى أن الغرر ينتفي عن الحيوان والرقيق، ورأى مرة أن ذلك يعلم من الرقيق؛ لأنه يخبر عن نفسه بخلاف غيره من الحيوان.

                                                                                                                                                                                        وقال أبو محمد عبد الوهاب: وجه التفرقة أن الرقيق يخفون عيوبهم، فلا يصل المالك إلى علم ذلك، وسائر الحيوان بخلافه؛ لأنه لا قدرة له على كتمان عيوبه. فعكس العلة وليس كذلك.

                                                                                                                                                                                        وقد أبان مالك وجه المنع، فقال -في كتاب محمد: إنما رأيت أن لا تنفع البراءة في الثياب والحيوان؛ لأنه مما لا تستطاع معرفته. وقال: لا أحب البراءة في رأس لم تطل إقامته ولم يخبره. ولا شك أن الغرر فيما لا يكتم عيوبه وطال ملكه فلم يعلم منه عيبا أخف مما يكتم عيوبه ولم تطل إقامته.

                                                                                                                                                                                        وأما تفرقته بين بيع الإنسان لنفسه، وما يقسم ثمنه للغرماء والوصايا، فلأن فيه ضربا من الضرورة، وكل هذا في تفرقته بين ما تمكن معرفة عيبه وغيرها وبين ما يفرق ثمنه أو لا يفرق - جنوح إلى تقدمة القياس، وأن ما كان [ ص: 4439 ] عليه العمل ليس على عمومه، وأنه في بعض التملكات مما يرتفع فيه الغرر أو الضرورة.

                                                                                                                                                                                        وأما البراءة من عهدة الثلاث، أو السنة فهو أخف؛ لأن حمى الربع من النادر، وكذلك الجنون والجذام والبرص، ولو علم من رجل الصلاح والخير. فقال- فيما طال ملكه لم أختبره وما علمت فيه إلا خيرا، أو باع على البراءة، لجاز في جميع المبيعات، حسبما ذكر عن الضرر الأول.

                                                                                                                                                                                        قال مالك: إن لم يعلم المشتري أنه بيع ميراث أو بيع سلطان حتى استوجبه، كانت له العهدة إلا أن يستفاق لذلك، فيخير المشتري إن شاء أخذه بالعهدة، وإن شاء رد مكانه.

                                                                                                                                                                                        وأرى إن علم المشتري أنه بيع سلطان أو ميراث، أو جهل أن ذلك بيع براءة، أن تكون له العهدة، ولا أرى أن يبيع السلطان بالبراءة حتى يسأل الذي يباع عليه، هل علم به عيبا أم لا؟ فإن قال: لا عيب به، ثم قال بعد البيع: علمت فيه ذلك العيب، لم يصدق. وإن لم يسأل عنه ولم يعلم بالعيب، صدق. وإن كان حاضرا للبيع ولم يسأل ولم يذكر أنه عالم بالعيب، وهو عالم أن البيع بيع براءة إلا ما علمه، لم يصدق وإن كان يجهل أن ذلك بيع براءة، وقال: سكت وأنا عالم بالعيب، بمنزلة لو كنت أنا البائع لنفسي دلست به، يحلف ورد البيع وانتزع من الغرماء الثمن.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم -فيمن اشترى عبدا من مال رجل قد فلسه السلطان- قال: قال مالك: يرده على الغرماء. وهذا أحد قوليه أنه لم ير بيع السلطان [ ص: 4440 ] بيع براءة، ولا تصح البراءة فيما علمه البائع أو السلطان أو الوصي، وللمشتري أن يرده إذا لم يصدق المفلس أنه كان عالما بالعيب. ولم يكن للمشتري أن يرد على الغرماء، على أحد قولي مالك أنه بيع براءة، فإن له أن يرده على البائع ويباع له على ملك المفلس، ويتبعه بما عجز متى أيسر.

                                                                                                                                                                                        ومن باع عبدا بالبراءة ثم وجد المشتري عيبا قديما، كان له أن يحلف أنه لم يعلمه، قال محمد: فإن نكل رد عليه. قال مالك -في العتبية: ولو شرط لا يمين عليه كان له شرطه. يريد: إلا أن يكون العيب مما لا يخفى على البائع في المدة التي كان عنده فيها، وعلمه المشتري بالقرب، رده.

                                                                                                                                                                                        واختلف في العيب المشكوك فيه، فقال ابن حبيب: لا يمين على البائع، خفيا كان أو ظاهرا. وقال ابن القاسم -في العتبية: يحلف فإن نكل رد من غير يمين على المشتري. وأرى أن يحلف ويرد الثمن إن نكل.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك -فيمن اشترى عبدا بالبراءة، وباعه على العهدة ولم يخبر أنه اشتراه بالبراءة: فللمشتري أن يرد إن أحب. وقال -في العتبية: لا بأس بذلك، ومن ابتاع على العهدة فلا يبيع على البراءة. وإنما منع أن يبيع على البراءة إذا اشترى على العهدة؛ لأنه لا يحسن أن يكون ذلك المبيع من المشتري الآخر، إن حدث به جنون أو جذام أو برص، ويرجع هو بجميع الثمن فيكون [ ص: 4441 ] قد أخذ فيه ثمنين، أو بقيمة العيب على القول الآخر. وكذلك في عهدة الثلاث إذا اشترى على العهدة، ثم باعه من يومه بالبراءة، فيموت في الثلاث فيبقى في يديه ثمن الثاني، ويرجع على الأول بالثمن الذي دفع إليه.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم -فيمن ابتاع عبدا على البراءة ثم باعه على العهدة، ثم وجد الثالث عيبا: رده على الأوسط وليس على الأول إلا يمينه.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن كنانة -في عبد تداوله ثلاثة نفر بالبيع على البراءة، فوجد الآخر عيبا كان عند الأول: حلف الأوسط أنه ما علمه وليس بين الآخر والأول عمل. وقاله ابن القاسم.

                                                                                                                                                                                        ولم يختلف في العلي من الجواري وسواء في ذلك بيع السلطان أو غيره، إلا أن تكون ملكا لامرأة أو صبي أو بيعت في السبي. [ ص: 4442 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية