توقف الصحابة في قتال مانعي الزكاة.
ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ففهم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله»، وجماعة من الصحابة: أن من أتى بالشهادتين، امتنع من عقوبة الدنيا بمجرد ذلك، فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة. عمر،
وفهم الصديق -رضي الله عنه-: أنه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا فعلوا ذلك، منعوا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها».
وقال: «الزكاة حق المال».
وهذا الذي فهمه الصديق قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا غير واحد من الصحابة.
منهم: وأنس، وغيرهما، وأنه قال: ابن عمر، «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة».
وقد دل على ذلك قوله تعالى: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [التوبة: 11]، [ ص: 156 ] يعني: على أن الأخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد، ولا يتم التوحيد إلا بالعمل الصالح، وعليه رتب دخول الجنة.
ولما قرر -رضي الله عنه- هذا للصحابة، رجعوا إلى قوله، ورأوه صوابا. أبو بكر
فإذا علم أن عقوبة الدنيا لا ترفع عمن أدى الشهادتين مطلقا، بل يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام، فكذلك عقوبة الآخرة.
وقد ذهب طائفة إلى هذه الأحاديث المذكورة أولا، وما في معناه.
وقالوا: كانت قبل نزول الفرائض، والحدود.
منهم: الزهري، والثوري، وغيرهما.
وهذا بعيد جدا؛ فإن كثيرا منها كانت بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود.
وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك، وهي آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء منهم من يقول في هذه الأحاديث: إنها منسوخة.
ومنهم من يقول: هي محكمة، ولكن ضم إليها شرائط.
ويلتفت هذا إلى أن الزيادة على النص هل هي نسخ، أم لا؟
والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور.
وقد صرح الثوري، وغيره بأنها منسوخة، وأنه نسخها الفرائض، والحدود، وقد يكون مرادهم بالنسخ: البيان، والإيضاح؛ فإن السلف كانوا يطلقون النسخ على مثل ذلك كثيرا.
أو يكون مقصودهم: أن آيات الفرائض، والحدود تبين بها توقف دخول الجنة، والنجاة من النار على فعل الفرائض، واجتناب المحارم.
فصارت تلك النصوص منسوخة؛ أي: مبينة مفسرة. [ ص: 157 ]
ونصوص الفرائض، والحدود ناسخة؛ أي: مفسرة لمعنى تلك، موضحة لها.
وقال طائفة: تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيدة في أحاديث أخر:
ففي بعضها: «من قال: لا إله إلا الله مخلصا».
وفي بعضها: «مستيقنا».
وفي بعضها: «يصدق قلبه لسانه».
وفي بعضها: «يقولها حقا من قلبه».
وفي بعضها: «قد ذل بها لسانه، واطمأن بها قلبه».
وهذا كله إشارة إلى عمل القلب، وتحقيقه بمعنى الشهادتين.
وتحقيقه بقوله: لا إله إلا الله: أن لا يؤله القلب غير الله، جاها، ورجاء، وخوفا، وتوكلا، واستعانة، وخضوعا، وإنابة، وطلبا.
وتحقيقه بأن محمدا رسول الله: أن لا يعبد الله بغير ما شرعه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحا أنه:
قيل: ما إخلاصها يا رسول الله؟ قال: «أن تحجزك عما حرم الله عليك». «من قال: «لا إله إلا الله مخلصا، دخل الجنة».
وهذا يروى من حديث أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، ولكن إسنادهما لا يصح.
وجاء أيضا من مراسيل الحسن نحوه.
وتحقيق هذا المعنى، وإيضاحه: أن قول العبد: لا إله إلا الله، يقتضي أن لا إله غير الله.
والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له، وإجلالا، ومحبة، وخوفا، [ ص: 158 ] ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله -عز وجل-.
فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك.