بيان حكم تجصيص القبور وبنائها، والكتابة عليها
وأخرج أحمد من حديث ومسلم قال: جابر، وفي رواية أخرى: وأن يوطأ، وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه، أن يكتب عليها. مسلم:
قال النهي عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة، وفي هذا: التصريح بالنهي عن البناء على القبور. الحاكم:
وهو يصدق على من بنى على جوانب حفرة القبر، كما يفعله كثير من الناس، [ ص: 581 ] من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه، ولأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا، فذلك مما يدل على أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به. ويصدق على من بنى قريبا من جوانب القبر كذلك؛ كما في القباب، والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها، أو في جانب منها، فإن هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا -أو قرية كذا- سورا. وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدا، مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة، أو القرية، أو المكان.
ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، أو بعيدة من الوسط، كما في المدينة الكبيرة، والقرية الكبيرة، والمكان الواسع. ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق، فهو لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها، ولا يدري بما استعملته في كلامها. وإذا تقرر لك هذا، علمت أن رفع القبور، ووضع القباب والمساجد والمشاهد مثلها، قد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعله تارة كما تقدم، وتارة قال: فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية، وذلك ثابت في الصحيح. وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد»، وتارة قال: لا تتخذوا قبري وثنا»، أي: موسما يجتمعون فيه، كما صار يفعله كثير من عباد القبور، يجعلون لمن يعتقدونه من الأموات أوقاتا معلومة يجتمعون عند قبورهم، ويعكفون عليها؛ كما يعرف ذلك كل أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم، ثم يميتهم ويحييهم، وعبدوا عبدا من [ ص: 582 ] عباد الله الذي صار تحت أطباق الثرى، لا يقدر على أن يجلب لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيما أمره الله أن يقول: لا تتخذوا قبري عيدا»؛ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا [يونس: 49].
فانظر كيف قال سيد البشر، وصفوة الله من خلقه في أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا. وكذلك قال فيما صح عنه: لا أغني عنك من الله شيئا». فاطمة بنت محمد! فإذا كان هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفسه، وفي أخص قرابته به، وأحبهم إليه، فما ظنك بسائر الأموات الذين لم يكونوا أنبياء معصومين، ولا رسلا مرسلين؟! بل غاية ما عند أحدهم أنه فرد من أفراد هذه الأمة المحمدية، وواحد من أهل هذه الملة الإسلامية، فهو أعجز وأعجز أن ينفع، أو يدفع عنها ضرا. وكيف لا يعجز عن شيء قد عجز عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخبر أمته كما أخبر الله عنه، وأمره بأن يقول للناس: بأنه لا يملك لنفسه شيئا من ضر ولا نفع، وأنه لا يغني عن أخص قرابته من الله شيئا؟! يا
فيا عجبا! كيف يطمع من له أدنى نصيب من علم، أو أقل حظ من عرفان، أن ينفعه أو يضره فرد من أفراد أمة هذا النبي الذي يقول عن نفسه هذه المقالة، والحال أنه فرد من التابعين له، المقتدين بشرعه! فهل سمعت أذناك -أرشدك الله- بضلال عقل أكثر من هذا الضلال الذي وقع فيه أهل القبور؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أوضحنا هذا أبلغ إيضاح في رسالتنا التي سميناها: «الدر النضيد في إخلاص التوحيد»، وهي موجودة في أيدي الناس.
[ ص: 583 ]