وقال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام: 153] هذه الآية الشريفة ما أوضحها في رد التقليد والنهي عنه، وذم الرأي والهوى، والدعاية إلى صراط الهدى، وأن هذا وصية من رب العالمين لقوم مؤمنين.
فبالله عليك -أيها العادل المنصف- قل لي: هذه المذاهب المبتدعة [ ص: 282 ] والمشارب المستحدثة في ملة الإسلام، البالغة إلى اثنتين وسبعين فرقة، هل يصدق عليها أنها سبل؟ وأن أصحابها أتباع لتلك السبل، أم هذه كلها سبيل واحد، يصدق عليه أنه صراط الرسول المستقيم؟!
وهل تفرقت تلك الفروع بهم عن سبيله تعالى ورسوله، أم جمعتهم على طريق واحد، هو اتباع الكتاب والسنة؟
وهل عمل المقلدة للمذاهب الأربعة وغيرها بهذه الوصية العليا، النازلة من السماء، أم خالفوها باختيار التقليدات، وإيثار المجتهدات، لا سيما فيما طريقه ظهور الأدلة القرآنية الشريفة، والنصوص الحديثية المنيفة؟
وهل في الدنيا من يصدق عليه أنه متمسك بمنطوق هذه الآية الكريمة غير عصابة المحدثين، وجماعة الأثريين؟
ألا ترى ماذا وقع في المذاهب الأربعة من الاختلاف في أحكام العبادات والمعاملات؟.
يرد أحدهم على غيره في كل رسالة وكتاب، ويؤيد كل منهم فرعه وأصله بكل حشيش وحطب، ويقول -بعدما حرر مذهبه-: خلافا لمالك، خلافا للشافعي، خلافا لأحمد، وكذا من يخاصمه من غير أهل مذهبه.
فما هذا إلا اتباع السبل، وقد نهى الله سبحانه عنه نهيا لا سترة عليه ولا غبار فيه.
فإن كنت ممن فيه بقية من الحياء، فاختر لنفسك الإنصاف باتباع السبيل الواحد الذي كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين، والأربعة المجتهدين، وسائر المحدثين المتبعين.
ولا تتبع هذه السبل الحادثة في الدين، منذ زمن كثير، فتفرق بك عن سبيل الله المستقيم، وصراطه القويم، واتق الله -يا هذا- في قبول هذه الوصية، من مالك يوم الدين، لعلك تفلح، وحالك يصلح، في يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين.
[ ص: 283 ] وإن كنت ممن لا خلاق له من الإسلام إلا اسمه، ومن الدين إلا رسمه، فالأمر إليك، والوزر عليك، وما علينا إلا البلاغ.
وقال تعالى: إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [الأنعام: 57].
وقال: ولا يشرك في حكمه أحدا وحكم الله سبحانه يشمل حكم الرسول، بنص الكتاب: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وبنص السنة الصحيحة: «أوتيت القرآن ومثله معه».
فإذا كان الحديث مثل القرآن، فالأمر بالكتاب أمر بالحديث، وكذلك الأمر بالاعتصام بالسنة أمر بالتمسك بالقرآن، فإنهما لا يفترقان أبدا في محل.
وعدم الإشراك في حكم الكتاب والحديث يقتضي رد جميع ما هو غيرهما من الآراء والتفريعات، المبنية على أقوال الأحبار والرهبان، واجتهادات الأعلام والأعيان.
فإن من قلد أحدا، وقال بقوله، وأفتى برأيه، وقضى باجتهاده، فقد أشركه بالله وبرسوله في التشريع.
ولهذا أدخل جمع جم من أهل العلم تقليد الرجال في الإشراك بالله.
وقد ذكر الله سبحانه هذه التقليدات في سياق الذم والرد على المشركين والكفار، ولم يذكرها في موضع واحد من كتابه في مقام المدح، أو الاعتبار.
وشنع بها على المخاصمين الفجار، وحكى عنهم أن عمدة أدلتهم في بطر الحق وطرده، وهو الاستدلال بما ألفوا عليه آباءهم، ووجدوا عليه أكابرهم، وإن كانوا جاهلين، وعن حلي العقل والعلم عاطلين.
وقد آل الأمر في هذه الأمة أيضا إلى هذه الحال، كما أخبر به الصادق المصدوق في كثير من الأخبار، ووردت به صحاح الآثار.