[ ص: 228 ] بيان أن النبي أمر أمته بأن تبلغ عنه، وحذرهم من الكذب عليه
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الحديث، رواه «بلغوا عني ولو آية» البخاري.
قال في الترجمة: أي: بلغوا الأمة من جانبي الدين والشريعة، وإن كان آية.
والظاهر من الآية: آية القرآن، ولكنها تدل على تبليغ الأحاديث؛ لأن القرآن منتشر مشتهر، كثير حاملوه، والله سبحانه متكفل لحفظه.
فإذا أمرنا بتبليغه، فأولى أن نكون مأمورين بتبليغ الأحاديث.
وأراد بعضهم من الآية: كلاما مفيدا بفائدة شريفة؛ فإنه علامة على عظم المعنى المراد به؛ كالأحاديث التي هي من قبيل جوامع الكلم، بل أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- كلها من هذا القبيل. فالمعنى: بلغوهم عني وإن كان حديثا واحدا.
ووجه تخصيص الحديث بالتبليغ: أن القرآن لا يحتاج إليه؛ لما ذكر.
انتهى.
قلت: المراد بالآية هنا: الحديث قطعا؛ لقوله: ولم يقل: عن الله. «بلغوا عني»
وإنما أطلق هذا اللفظ عليه؛ لأن منطوقه -صلى الله عليه وسلم- في حكم الوحي، كما قال تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم: 3- 4] وفي الحديث: فأطلق على الحديث لفظ المثل. «أوتيت القرآن ومثله معه»
فإذا ثبت أن الحديث مثل القرآن صدق عليه أنه آية كآية القرآن.
وهذا دليل واضح بأن الاحتجاج في دين الإسلام مقصور على هاتين الآيتين اللتين هما الحديث والقرآن.
ولو لم يكن المراد بالآية في هذا الحديث حديثه -صلى الله عليه وسلم- لم يقل بعد ذلك في آخر الحديث: «ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار».
[ ص: 229 ] وهذا مبالغة في المنع من وضع الحديث، والتقول عليه -صلى الله عليه وسلم- وإن كان للترغيب أو للترهيب؛ فإن ذلك حرام، وكبيرة باتفاق العلماء.
وأدخله في الكفر، وحكم على القائل به بخلود النار، وهذا هو الحق؛ لأن الإمام الجويني في وضع الحديث والكذب عليه تحريفا للشريعة، وإفسادا في الدين، ومزجا للحق بالباطل.
وقد قال تعالى: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [البقرة: 42] وجوز قوم وضعه ترغيبا وترهيبا.
قال في الترجمة: وهذا المذهب خطأ، والحق أن وضعه وروايته حرام، إلا مع بيان الوضع. انتهى.
قلت: قيد التعمد في هذا الكذب عليه يخرج من رواه من غير تعمد؛ جهلا منه بوضعه، ولكن الشأن فيمن ثبت عنده أن الحديث الفلاني موضوع، ثم يرويه بأن يحتج به، ولا يسمع قول أئمة الحديث في الحكم بوضعه، وهم أعرف به من هذا الفقيه المصطلح، أو الصوفي الجاهل، أو الفلسفي العاطل، بل يتحيل لإثباته من كلام من ليسوا بعارفين بعلم السنة المطهرة، كحال أكثر الفقهاء وأحاديثهم المروية في كتب الفروع من «الهداية» ونحوها، وكأحاديث وجوب السفر لزيارة الأموات من الأنبياء -عليهم السلام- وغيرهم، وكأحاديث فضائل نعمان بن ثابت الإمام -رضي الله عنه- وكأحاديث فضائل الأعمال غالبا مع ضعفها ونكارتها وشذوذها.
وقد نص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كذب من حدث عنه حديثا كذبا كما في حديث سمرة بن جندب، رفعاه: والمغيرة بن شعبة رواه «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين» مسلم.
قال في الترجمة: يرى -بضم الياء- معناه: ظن، و-بفتحها- معناه: علم، والعلم -هنا- بمعنى: ظن؛ لأنه لا يشترط في منع رواية الحديث اليقين، بل يكفي فيه ظن الكذب.
[ ص: 230 ] وقال بعضهم: لا يجوز على احتمال الكذب والشك والشبهة فيه.
والصواب: أنه لا ينبغي أن يترك على مجرد الاحتمال.
وتفصيل الكلام إن كان الظن غالبا في جانب الصدق يجوز التحديث، وإن كان في جانب الكذب فلا يجوز. وفي صورة الشك: جوازه وعدم جوازه سواء. والظاهر من كلام الشيخ ابن حجر: الجواز.
وروي «كاذبين» بصيغة الجمع والتثنية، وعلى الثاني، المراد: الراوي والمروي عنه. انتهى.
قلت: والراجح أن مجرد احتمال الكذب مانع من روايته، وفيه الاحتياط؛ ولهذا اختاره أئمة هذا العلم قديما وحديثا؛ كابن الجوزي، وصاحب «القاموس» ومن نحا نحوهما، ومن تساهل فقد وقع في الكذب، واستحق الوعيد الشديد.