فصل
وأما المقام الثاني، فكثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق يكونون في الدنيا أذلاء مقهورين، مغلوبين دائما، بخلاف من فارقهم، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه.
بل إما أن يجعله خاصا بطائفة، أو بزمان دون زمان، ويجعله متعلقا بالمشيئة، وإن لم يصرح بها، وهذا من عدم الوثوق بوعد الله، وسوء الفهم في كتابه.
قال تعالى: والله سبحانه قد بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر: 51] وقال تعالى: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون [المائدة: 56] وقال تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة: 20-21] وهذا كثير في القرآن.
[ ص: 399 ] وقد بين سبحانه فيه: أن فبين سبحانه في كتابه المقدمتين، فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمور، وزال الإشكال بالكلية، واستغنيت عن تلك التكلفات الباردة، والتأويلات البعيدة. ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدو، صغير أو كبير، وغير ذلك، فبذنوبه.
فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير، منها ما تقدم، ومنها أنه ذم من يطلب النصر والظفر من غير المؤمنين؛ كقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء [المائدة: 51] إلى قوله: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة [المائدة: 52] إلى قوله: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون .
فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون.
ونظير هذا قوله تعالى: بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا [النساء: 138 139] وقال تعالى: يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [المنافقون: 8].
وقال: من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 8] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما في المقام الثاني، فقال في قصة «أحد»: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [آل عمران: 165] وقال تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا [آل عمران: 155].
وقال: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى: 30].
وقال: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [الروم: 41] [ ص: 400 ]
وقال: وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور [الشورى: 48]
وقال: أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير [الشورى: 34].
وقال: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [النساء: 79] إلى غير ذلك.