طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم شرك
قال: ومن أنواع الشركة: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ؛ فإنه لا يقدر أحد أن يشفع له عند الله إلا بإذنه سبحانه.
والله تعالى لم يجعل استغاثته وسؤاله الشفاعة سببا لإذنه، وإنما السبب له كمال التوحيد.
فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك.
فجمع المشركون بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه.
وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم ؟!وما نجا من هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيد الله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده - وليه وإلهه ومعبوده.
فجرده حبه لله، وخوفه ورجاءه وذله له، وتوكله عليه، واستغاثته به، والتجاءه إليه، واستعانته إياه، وقصده له، متبعا لأمره، متطلبا لمرضاته.
إذا سأل، سأل الله، وإذا استعان، استعان بالله، وإذا عمل، عمل لله، فهو لله، وبالله، ومع الله. انتهى كلامه - رحمه الله -.
قال في «فتح المجيد»: وهذا الذي ذكره هذا الإمام، هو حقيقة دين الإسلام؛ كما قال سبحانه: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء: 125] انتهى.
[ ص: 293 ] وأقول: اللهم اسلك بنا مسلك خليلك، إبراهيم - عليه السلام في توحيد، وإخلاص العبادة لك، والاجتناب عن الشرك وأهله.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله إمام المسلمين، وناصر سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات المتقدمة ونحوها:
نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قسط منه، أو يكون عونا له، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ؛ كما قال: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [الأنبياء: 28].
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه يأتي، فيسجد لربه، ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع».
- رضي الله عنه -: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: «لا إله إلا الله، خالصا من قلبه». أبو هريرة وقال له
فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقتها: أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ؛ ليكرمه، وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن: ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
وفيه: المنفية والمثبتة، وذكر صفة الشفاعة وهي المقام المحمود، وبيان ما يفعله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن الله له، شفع. الشفاعة الكبرى،
وأن أسعد الناس بها الموحدون، وهي لا تكون للمشركين.
وحديث هذا عند أبي هريرة البخاري، ورواه والنسائي، وصححه [ ص: 294 ] أحمد، وفيه: ابن حبان، «وشفاعتي لمن قال: لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه».
وشاهده في «صحيح عن مسلم» أيضا، قال: أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا».
وكلام شيخ الإسلام المتقدم قائم مقام الشرح والتفسير لهذا الحديث الأخير، وهو كاف للمجتهد، واف للمقلد، مع الإيجاز البالغ، والاقتصار السابغ.