استعمالات لفظ الدعاء
قال «في فتح المجيد»: وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة، ومن بعدهم من العلماء، في السؤال، والطلب؛ كما قال أهل اللغة وغيرهم: الدعاء. الصلاة لغة:
وقد قال تعالى: والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير [فاطر: 14]، وقال: تدعونه تضرعا وخفية [الأنعام: 13]، وقال: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما [يونس: 12].
وقال: وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض [فصلت: 51]، وقال: لا يسأم الإنسان من دعاء الخير [فصلت: 49]، وقال: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [الأنفال: 9].
وفي حديث مرفوعا: أنس «الدعاء مخ العبادة».
وفي الحديث الصحيح الآخر: وفي حديث آخر: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة». «من لم يسأل الله، غضب عليه».
[ ص: 270 ] وفي آخر رواه «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، وصححه. والحاكم
وقال: رواه «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض» وصححه. الحاكم
وقال: «سلوا الله كل شيء، حتى الشسع إذا انقطع».
وعن - رضي الله عنهما - قال: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: ابن عباس وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [غافر: 60] رواه ابن المنذر، وصححه. والحاكم
وفي الحديث: الحديث. «اللهم إني أسألك بأن [لك]. الحمد، لا إله إلا أنت المنان»
وفي آخر: وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى في الدعاء الذي هو السؤال والطلب. «اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد».
فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة، فقد صادم النصوص، وخالف اللغة، واستعمال الأمة، سلفا وخلفا.
وأما ما تقدم من كلام ابن تيمية، وتبعه ابن القيم - رحمهما الله تعالى - من أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة وما ذكر مما بينهما من التلازم، وتضمن أحدهما للآخر، فذلك باعتبار كون الذاكر، والتالي، والمصلي، والمتقرب بالنسك وغيره طالبا سائلا في المعنى، فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار. [ودعاء مسألة]،
وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة مالا تصح الصلاة إلا به، كما في الفاتحة، وبين السجدتين، وفي التشهد، وذلك عبادة ؛ كالركوع، والسجود، فتدبر هذا المقام، يتبين لك الجاهلين بالتوحيد.
ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحا قول العلامة رحمه الله في قوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [الإسراء: 110].
[ ص: 271 ] هذا الدعاء المشهور إنه دعاء المسألة. قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه فيقول مرة: يا ألله! ومرة: يا رحمن! فظن المشركون أنه يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية. ذكر هذا عن - رضي الله عنهما -. ابن عباس
وقيل: إن الدعاء، هنا بمعنى التسمية، والمعنى: أي اسم سميتموه به من أسماء الله، إما الله، وإما الرحمن، فله الأسماء الحسنى، وهذا من لوازم المعنى في الآية.
وليس هو عين المراد، بل المراد بـ «ادعوا»: معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال، ودعاء الثناء.
وإذا عرفت هذا، فقوله: ادعوا ربكم تضرعا وخفية [الأعراف: 55] يتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه.
وقال بين دعاء السر، وبين دعاء العلانية، سبعون ضعفا. الحسن:
ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، ولم يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم.
وقوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [البقرة: 186] يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية.
قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل أثيبه إذا عبدني.
وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمال في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا.
وهذا يأتي في مسألة الصلاة، وأنها انقلبت عن مسماها في اللغة، وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازا؛ للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي، وضم إليها أركان وشرائط.
[ ص: 272 ] فعلى ما قررناه لا حاجة لشيء من ذلك، فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء، إما دعاء عبادة وثناء، وإما دعاء طلب مسألة، وهو في الحالين داع. انتهى من «البدائع» ملخصا.
وقال تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء [النمل: 62] بين سبحانه أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ولا يكشف السوء إلا الله وحده.
فذكر ذلك تعالى محتجا عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، وقال: مع الله بل يعني: يفعل ذلك.
فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار، فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء عنه وحده.
وهذا أصح ما فسرت به هذه الآية كسابقها من قوله: أمن خلق السماوات والأرض إلى قوله: بل أكثرهم لا يعلمون [النمل: 61] ولاحقها إلى قوله: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [النمل: 64].
فتأمل هذه الآيات، يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه من قصر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب : إياك نعبد وإياك نستعين .
قال يقول تعالى: أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء النازل به عنه ؟ أإله سواه معه يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟ قليلا ما تعتبرون بحجج الله عليكم، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته. ابن جرير:
روى الطبراني:
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله - عز وجل -». هذا المنافق هو: أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق. عبد الله بن أبي ؛ كما صرح به في روايته. ابن أبي حاتم
[ ص: 273 ] والمراد ببعض الصحابة: - رضي الله عنه -. وإنما أراد ذلك ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدر على كف أذاه، فقال صلى الله عليه وسلم ما تقدم. أبو بكر الصديق
وفيه النص على أنه فكره أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان فيما يقدر عليه في حياته ؛ حماية لجناب التوحيد، وجانب التفريد، وسدا لذرائع الشرك، وأدبا وتواضعا لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فضلا عمن هو دونه،
فإذا كان هذا فيما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته ومماته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله؟ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء، كالبوصيري، والبرعي، وغيرهما من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا حياة، ولا موتا، ولا نشورا؟ أو يعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه.
وقال تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله [الأعراف: 188] في مواضع من القرآن، قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا [الجن: 21].
فأعرض هؤلاء عن القرآن، ونبذوه وراءهم نسيا منسيا، واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات.
وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير، والجمع الغفير، والجم الغزير.
فزعموا الشرك بالله دينا، والهدى ضلالا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظمها من مصيبة، عمت بها البلوى، وطابت بها الدعوى عند أهل الأهواء، حتى عاندوا أهل التوحيد، وبدعوا أهل السنة والتجريد! فالله المستعان وعليه التكلان.
[ ص: 274 ] وقال تعالى: أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [الأعراف: 191]، قال المفسرون: هذه الآية فيها توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئا، وهو مخلوق، والمخلوق لا يكون شريكا للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبين أنهم لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون [الأعراف: 192]، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه، ولا نصر نفسه ؟!.
وهذا برهان ظاهر، ودليل باهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله. وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة، والأنبياء والصالحين.
وأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم كان يستنصر ربه على المشركين ويقول: «اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل».
وهذه الآية كقوله سبحانه: واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [الفرقان: 3] .
وقوله تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء [الأعراف: 188]وقوله تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته [الجن: 21- 22- 23]، وهذه الآيات كفت برهانا على بطلان دعوة غير الله، كائنا من كان.
فإن كان نبيا أو صالحا، فقد شرفه الله بإخلاص العبادة له، والرضاء به ربا ومعبودا.
فكيف يجوز أن يجعل العابد معبودا، مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك ؟ كما قال: لا إله إلا هو [القصص: 88]، وقال: أمر ألا تعبدوا إلا إياه [يوسف: 40]، وهذا خطاب شامل لجميع العباد من الأنبياء والصلحاء وغيرهم، وأمر لهم بإخلاص العبادة له سبحانه وحده، ونهي لهم عن أن يعبدوا معه غيره، أي عبادة كانت، صغيرة أو كبيرة، ظاهرة أو باطنة، وفي أي حالة [ ص: 275 ] تكون، من منشط ومكره، وعسر ويسر، ورخاء وشدة.
هذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو الإسلام المروي في «صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جواب البخاري» جبريل - عليه السلام -: الحديث. «قال: ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئا»
وقد أخبر سبحانه في قوله: والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير عن حال المدعوين من دونه أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وسواء في ذلك الملائكة، والأنبياء، والأصنام وغيرها، فكل من دعا غير الله، ولم يدع الله، فهذا حاله.
فبين تعالى حال المدعوين من دونه مما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب والشروط، التي لا بد أن تكون في المدعو، وهي: الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته.
فمتى لم يوجد أحد هذه الشروط التامة، بطلت دعوته، فكيف إذا عدمت بالكلية؟ فنفى عنهم الملك بقوله: ما يملكون من قطمير .
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء والحسن، «القطمير»: اللفافة التي تكون على نواة التمر. وقتادة:
فلا يملكون من السماوات والأرض شيئا، ولا بمقدار هذا القطمير.
وقال: ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون وقال: لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض [سبإ:22].
ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم، مشتغل بما خلق له، مسخر بما أمر به ؛ كالملائكة.
ثم قال: ولو سمعوا ما استجابوا لكم لأن ذلك ليس إليهم، فإن الله لم يأذن [ ص: 276 ] لأحد من عباده في دعاء أحد منهم باستقلال ولا بواسطة، كما تقدم بعض أدلة ذلك في هذا الكتاب.
وقوله: ويوم القيامة يكفرون بشرككم وهذا يدل على أن دعوة غير الله شرك جلي.
وقال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [مريم: 81-82].
هذا إخبار من الله تعالى بإنكار المعبودين عن عابديهم، وكونهم ضدا عليهم في هذه العبادة الشركية.
ولا يخبر بعواقب الأمور، ومآلها، وما تصير إليه، مثله سبحانه ؛ كما قال: ولا ينبئك مثل خبير .
قال يعني نفسه - تبارك وتعالى - فإنه أخبر بالواقع لا محالة. قتادة:
قال بعض أهل العلم: والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم، بل قالوا: إنها تملك وتسمع، وتستجيب وتشفع، وتعطي المرادات، وتقضي الحاجات، وتقبل النذور.
ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به اللطيف الخبير، من أن كل معبود يعادي عابده يوم القيامة، ويتبرأ منه، وينكر عليه.
وقال في قوله تعالى: مجاهد: إن كنا عن عبادتكم لغافلين [يونس: 29] يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله.
فالكيس يقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان وصحيح الإيقان، وبالعمل بها بالقلب والأركان.
فيجرد أعماله لله وحده، دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه ضرا [ ص: 277 ] ولا نفعا، فضلا عن غيره، والسفيه يعتقد نقيض هذه الأدلة البينات، ويؤولها بما لا يجزي شيئا، ولا يسمن ولا يغني من جوع؛ كقوله: إن هذه الآيات وردت في شأن الكفار والمشركين، فما لنا ولها؟.
ولا يدري هذا الأحمق أنه قد تقرر في الأصول باتفاق الأئمة الفحول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الحكم يتعدى بوجود الجامع بينه وبين غيره.
فكل من فعل فعلا هو من شأن أهل الكفر، وقال قولا هو من مقالات الكفار، فقد صار بذلك مصداقا لما ورد في شأنهم وحالهم، إن زعم أنه مسلم، كما أن الكافر إن جاء بخصلة من خصال الإسلام، أو قال كلمة الإسلام بلسانه، ولم يصدق بها بجنانه، فإنه لا يصير بهذا القدر من المسلمين.
فالشرك شيء مشترك بين الإيمان والكفر كما قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .
وإخلاص الله بالعبادة لا يشارك فيه أحد من الكفار والمشركين، ولا يتصف به إلا أهل التوحيد والاتباع، كما قال سبحانه: إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار [ص: 46] .
- رضي الله عنه - قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أنس أحد، فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟» فنزلت: ليس لك من الأمر شيء [آل عمران: 128) رواه وعن تعليقا، ووصله البخاري أحمد، والترمذي، والنسائي، ومسلم.
قال في «المغازي»: حديث ابن إسحاق حميد الطويل قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه، وجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟»، فأنزل الله الآية. أنس، عن
[ ص: 278 ] قال «الشج» في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه ويشقه. ثم استعمل في غيره من الأعضاء. أبو السعادات: