[ ص: 206 ] ألا ترى أن النصارى إنما كفروا بمثل هذا الإطراء وصاروا مردودين من حضرة الإله؟
فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته عن أن يسلكوا مسلكهم، ويتجاوزوا في وصفه ومدحه وثنائه الحد المضروب له، ويصيروا كالنصارى في الرد.
ولكن التأسف على هذه الأمة اليوم؛ فإنها لم تقبل قول رسولها في هذا الباب، وصارت كالنصارى في القول، والخطاب، والغلو؛ لأن النصارى كانوا قائلين بأن الله تعالى تجسد بعيسى - عليه السلام - فهو إنسان من وجه، وإله من وجه، وبمثل هذا قال بعض هذه الأمة، وأفصح به في النظم، كما قال قائلها:
في الجملة يمين بودكه في آمدميرفت بهر قرن كه ديدي در عاقبت آن شكل عرب وار بر آمد
داراى جهان شد
تقدير بيك ناقه نشانيدد ومحمل سلماي حدوث تو وليلاي قدم را
تا مجمع امكان ووجوبت ننوشتند مورد متعين نشد اطلاق اعم را
أقمى الله هؤلاء الكذابين، وسود وجوههم، فقد صنعوا مثلما صنعت النصارى، وقالوا بقولهم، حتى كما أن النصارى يقولون: إن تدبير هذا العالم، وعالم الآخرة بيد المسيح - عليه السلام - وفي قدرته واختياره، ومن آمن به والتجأ إليه لا يحتاج إلى العبادة، ولا يضره ذنب، ولا حاجة له في ميز الحلال من الحرام، بل هو سائبة الله تعالى، فليفعل ما شاء يشفع له عيسى - عليه السلام - في الآخرة، وينجيه من عذاب الله تعالى وعقابه.
[ ص: 207 ] فهكذا قال جهلة هذه الأمة وبطلتهم، وجاؤوا بمثل هذه العقيدة في جنابه صلى الله عليه وسلم بل في حق الأئمة، وأولياء الأمة، بل في حق كل مولوي وشيخ، نعوذ بالله من ذلك. انتهى.
وهذه مقالاتهم في كتبهم المؤلفة في أحوال الأولياء، وهذه قصائدهم في مدح الصلحاء الأصفياء اشتملت على إطرائهم إلى غاية فضلوهم على الله تعالى، وأثبتوا لهم كل قدرة وتصرف وأمر في الخلق.
قال الشوكاني في "الدر النضيد»: فانظر رحمك الله ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه، المخالف لما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقوله صاحب البردة - رحمه الله -.
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وهذا باب واسع، قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء عليهم السلام - بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشرك في أبواب بكثير من الأسباب.
من ذلك قول من يقول مخاطبا لابن العجيل:
هات لي منك يا بن موسى إغاثه عاجلا في سيرها حثاثه
ويغلب على الظن أن مثل هذا البيت والبيت الذي قبله، إنما وقعا من قائلهما لغفلة وعدم تيقظ، ولا مقصد لهما إلا تعظيم جانب النبوة والولاية.
ولو نبها، لتنبها ورجعا، وأقرا بالخطإ.
[ ص: 208 ] وكثيرا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة، وقد سمعنا ورأينا.
فمن وقف على شيء من هذا الجنس لحي من الأحياء، فعليه إيقاظه بالحجج الشرعية.
فإن رجع، وإلا، كان الأمر فيه كما أسلفناه.
وأما إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثرى، فينبغي إرشاد الأحياء إلى ما في ذلك من الخلل.
وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس.
ووقع أيضا لمن تصدر لمدح نبينا صلى الله عليه وسلم ومدح الصالحين والأئمة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدة.
فليس المراد إلا التنبيه والتحذير لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذاريات: 36]، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب [آل عمران: 8]. انتهى.
قال في «فتح المجيد»: أبى المشركون إلا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه، وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في علوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك - شعرا ونثرا - ما يطول عده، وصنفوا فيه مصنفات.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام عن بعض أهل زمانه: أنه جوز وصنف في ذلك مصنفا رده شيخ الإسلام، ورده هذا موجود بحمد الله. الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وفي كل ما يستغاث فيه بالله،
[ ص: 209 ] وقال: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وذكر أشياء من هذا النمط، ونعوذ بالله من عمى البصيرة.
وقد اشتهر في نظر البوصيري قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فناقضوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة.
وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة الرسول وتعظيمه.
وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في شبح تنقيصه.
وهؤلاء المشركون هم المنتقصون الناقصون. أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته التي كان قد أمرهم بها في كل نقير وقطمير، فلم يعبؤوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه، ولا أسلموا له.
وإنما يحصل واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه، ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه. تعظيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومحبته بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه،
فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علما وعملا، وارتكبوا ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا. والله المستعان. انتهى.
قلت: وقد وقع من هذا الجنس أي: وثناء المشايخ الصلحاء، والأساتذة الكرام - شيء كثير في اللغة الفارسية والهندية في هذا الزمان من شعراء العصر، وتبع فيه الآخر الأول. الغلو القبيح، والإطراء في ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم،
ولم يلتفتوا إلى إيقاظ من أيقظهم، ولم يصغوا إلى كلام من وعظهم في ذلك، وزجرهم عن مثل هذا المدح والتوصيف، بل رموه بكل حجر ومدر.
[ ص: 210 ] وقالوا: إن المانع من جنس هذا الكلام، مستخف بالرسول -عليه الصلاة والسلام- وهم أشد استخفافا له صلى الله عليه وسلم بإحداث مثل هذه الألفاظ المبتدعة، والأوصاف المختلفة، التي لم يرد بها الشرع الشريف قط، ولم يأذن بها الله، وما أنزل الله بها سلطانا.
هذا شاعر الهند غلام إمام المتخلص بالشهيد، قد صار تحت أطباق الثرى، غلا في بيان قصص النبي صلى الله عليه وسلم ومدائحه صلى الله عليه وسلم نظما ونثرا بلغة الفرس والهند، وتبعه من تبعه من الجهلة بالدين، والمسلمة المشركين.
أليس يكفي في مدحه صلى الله عليه وسلم ما وردت به السنة الصحيحة من الخصائص والأوصاف الكمالية، وهي مدونة في دواوين الإسلام؟ وما وصفه به رب العالمين الذي جعله خاتم الرسل، وسيد الأولين والآخرين، وقال في كتابه المبين: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107]؟.
لا يبلغ مدح أحد إلى هذا المدح، ولا يتصور المزية فيه على هذا الكلام الجامع الحافل، الصادر من خالق السماوات والأرضين.
فعليك يا هذا ألا تمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما مدحه الله تعالى في كتابه العزيز، وأفصحت به دواوين السنة المطهرة الصحيحة الثابتة عند أهل العلم بها والمعرفة لها، ففيها ما يشفي ويكفي.
واجتنب عما جاء به الغالون المطرون، وبادرت إليه أفكارهم المبتلاة بريب المنون.
فدع عنك نهبا صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل
فقلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: «قولوا قولكم، أو بعض قولكم» ؛ أي: مجموع ما قلتم، أو هذا القول ونحوه.
يعني: اقتصروا على إحدى الكلمتين من غير حاجة إلى المبالغة بها. ويمكن أن يكون المعنى: بل قولوا بعض قولكم ؛ مبالغة في التواضع.
وقيل: قولوا قولكم الذي جئتم لأجله وقصدتموه، ودعوا غيره مما لا يعنيكم.
رواه «ولا يستجرينكم الشيطان» أبو داود.
أي: لا يتخذنكم جريا - بفتح الجيم وكسر الراء، وتشديد الياء -؛ أي: كثير الجري في طريقه ومتابعة خطواته.
وقيل: هو من الجرأة ؛ أي: لا يجعلنكم ذوي شجاعة على التكلم بما لا يجوز.
وفي «النهاية»، لا يغلبنكم فيتخذكم جريا؛ أي: رسولا ووكيلا.