الدرجة السادسة
في بيان أن وقامت عليه الحجة، وعاند مصرا على الشرك فيها، معلنا بكفره. عبادة غير الله كفر، وشرك أكبر يحل الدم، والمال، ويخلد صاحبه في النار إذا بلغته الدعوة،
فأما أنها كفر وشرك؛ فلأن لفظ «الشرك» معناه: أن يعبد غير الله مع الله، وهذا هو الواقع.
ولفظ «الكفر» معناه: الجحود، والتكذيب، والإنكار على ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ضرورة.
فهذه الأسماء وهذه المسميات بينهما كما بين الأمهات والبنات.
وقد ذكر ابن هشام في «السيرة»: إنما كانت عبادة المشركين العكوف، والدعاء، ونحوهما من الذبح، والطواف.
وفي «زاد المسافرين» لابن القيم في: المغازي، في فصل: قدوم وفد خولان، وهم عشرة: أنه قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل عم وهو صنم «خولان» الذي كانوا يعبدونه. أنس؟
قالوا: شر، بدلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير، وعجوز كبيرة متمسكون به، ولئن قدمنا عليه، لهدمناه إن شاء الله تعالى؛ فقد كنا منه في غرور، وفتنة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعظم ما رأيتم من فتنة؟».
قالوا: لقد رأينا قحطا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه، وابتعنا به مائة ثور، ونحرنا لعم أنس قربانا غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، فجاء ونحن أحوج إليها من السباع، ونزل الغيث من ساعتها.
ولقد رأينا الغيث يواري رجالا، ويقول قائلنا: أنعم عم أنس.
وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقتسمون لصنمهم هذا من أنعامهم، [ ص: 222 ] وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءا له، وجزءا لله بزعمهم، إلى آخر القصة، وفيها: وكنا نتحاكم إليه.
وقد ذكر قطرب في قوله تعالى: وما ذبح على النصب [المائدة:3] أن «على» بمعنى اللام؛ أي: ما ذبح لأجلها.
فإذا جادل مجادل، وأنكر منكر، أو كابر مكابر في هذا الأمر الظاهر، فقل له: بين لي الشرك ما هو؟ وما الذي حرم الله، ونهانا عنه؟ وما الذي كان المشركون يعبدونه من أصنامهم المنقوشة، وأنصابهم المنصوبة، وغيرها من معبوداتهم؟
فإنه لا يجد جوابا أبدا إلا أن يقول: إنه عبادة غير الله.
وعبادة غيره إما بالدعاء، أو بالذبح، أو بغيرهما من العبادات، وأصح الشهادات ما شهدت به الأعداء.
أو يقول: لا أدري.
فقل له: فكيف تنكر ما لا تعرف، وتجحد ما لا تدري؟
وكذلك تقول في العبادة التي فرضها علينا، وأمرنا بها، وخلقنا لها، ومستحقة لدينا: إن صرفناها إليه، وعبدناه بها، كنا من الموحدين، وإن صرفناها لغيره، وعبدناه بها، صرنا من المشركين.
فإن عرفها، وبها، وإلا فبين له ذلك بأقسامها: من الاعتقادية، والقولية، والفعلية، والبدنية، والمالية: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [الإسراء: 81] وما يبدئ الباطل وما يعيد [سبأ:49].
وقد بين الله سبحانه لنا الأحكام، وفصل لنا الحلال والحرام، وأحاطت الشريعة المحمدية بأقسام العلوم، واشتملت على الأصول والفروع بالمنطوق والمفهوم.
وقد تركنا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، والحنيفية السمحة السهلة الغراء ليلها كنهارها. [ ص: 223 ]
وما طار طائر في الجو، إلا وجعل لأمته منه ذكرا، وقد أفادت السنة بكيفية الاستجمار بالأحجار كيف يصنعها.
بل في «سنن في آداب الخلاء قولهم: أبي داود» «لقد علمكم نبيكم حتى الخراءة».
فما بالك أيها الإنسان بمسألة عظيمة فخيمة، لأجلها أعدت الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين ؟!
كيف لا يبينها، ويوضحها، ويشرحها؟ والله لقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاغا مبينا، ولم يترك من ذلك ذرة.
هذه كتب السير والمغازي تدل على ذلك دلالة واضحة، وأن هذا الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، وحاربهم عليه.
ولم تكن عبادتهم الأصنام ونحوها إلا الدعاء بهم، والتعلق، والاعتقاد فيهم، والالتجاء إليهم، والاستغاثة بهم، والاستعانة منهم، والعكوف عندهم.
وأما الدليل على أنه يخلد صاحبه في النار، فقوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله إلى قوله: وما هم بخارجين من النار [البقرة:165].
وقوله تعالى: من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [المائدة -72].
وأما الدليل على القتال، فقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم [التوبة:11].
قال الحسين بن الفضل: هذه الآية نسخت كل آية فيها الإعراض والصبر على الأذى من الأعداء.
والمعنى: إن تابوا من الكفر والشرك، وأتوا بما ذكر، فخلوا سبيلهم.
[ ص: 224 ] وقال تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله [الأنفال : 39] . أي : لا يعبد غيره ، وقيل : أي : يكون خالصا لله لا شرك فيه .
وفي «تفسير الجلالين » : إن . الفتنة هنا هي الشرك بالله تعالى
وقال سبحانه : وقاتلوا المشركين كافة [التوبة : 36] .
وفي «الصحيح » : . «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله»
قال النووي : قال : معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب ؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله ، ثم يقاتلون ، ولا يرفع عنهم السيف . الخطابي
وذكر : أن اختصاص عصمة النفس لمن قال: لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة ، والإيمان ، وهذه فائدة عظيمة استفدتها . عياض
وفي الأحاديث النبوية قيود ، وشروط الكلمة التوحيد ، وهي لا إله إلا الله ، إذا تأملها الإنسان ، خاف على نفسه ، فضلا عن أهل الشرك والكفر ، والطغيان .
منها : ألا يشك فيها ، ولا يرتاب ، ولا يتكبر ، ولا يجور ، ولا يستخف بها ، وأن يحجزه ذلك عن المعاصي ، وأن يقولها مخلصا من قلبه .
وقد قال بعض الأئمة : احفظوا العلم بقيوده .
بل أئمة المذاهب الأربعة قد صرحوا بوجوب ، بل ترك الأذان ، وصلاة العيد ؛ لأنهما من شعائر الإسلام ، بل نقل بعضهم الإجماع على قتال طائفة ممتنعة من فريضة من الفرائض المشهورة . قتال من نفى الزكاة ، أو ترك الصلاة
وذكر النووي في «شرحه للأربعين » : أن حكم الواحد كذلك، مع أنه يدخل في اسم الطائفة .
وفي الحديث الشريف، عن بريدة بن الخصيب في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 225 ] للغزوة : أخرجه «اغزوا باسم الله ، وقاتلوا من كفر بالله » أبو داود.
والله يقول الخير للخلق أجمعين .
قال سبحانه : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [النحل : 89] .
اللهم إنا قد وجدنا كتابك كذلك، وقبلنا بشراك على ما هنالك ، فاكتبنا مع الشاهدين ، واحشرنا في زمرة الصالحين .