الفرق بين المشركين الأولين، وبين مشركي هذا الزمان
فبين شركهم وشرك أهل زماننا هذا فروق أربعة:
الأول: أنهم كانوا لا يشركون في توحيد الربوبية.
الثاني: أنهم كانوا لا يشركون بالله في حالة الشدائد.
الثالث: كانوا أرادوا بذلك الشفاعة والقربة.
الرابع: أنهم كانوا يطلبون ذلك بواسطتهم من الله.
ومشركو هذا الزمان يفارقونهم في هذه الأربع.
يعني: أنهم يقولون: يا شيخ فلان! أعط كذا وكذا لمن زار قبرك، أو نذر لك.
ويهتفون بالمخلوقين عند الشدة؛ كقولهم عند تموج البحر وتلاطمه: يا فلان! نجنا من الغرق، ولك كذا وكذا من النذور، وفيه: إرادة الفعل منهم من العطاء، والنجاة بلا واسطة.
والدليل على الأول- أي: على أنهم لا يشركون في الربوبية -: ما مر من قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض [العنكبوت:61] إلخ.
والدليل على الثاني -أي: على أنهم لا يشركون في الشدة-: قوله تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون [النحل:53-55].
وقال تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [الإسراء:67].
وقال تعالى: ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون [العنكبوت:65-66].
وهذه لام العاقبة عند النحاة - أي: عاقبة شركهم الكفر، والتمتع -. [ ص: 207 ]
والدليل على الثالث -أي: على أنهم يطلبون الشفاعة، ويريدون القربة-: قوله تعالى: إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار [الزمر: 3].
وقال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [يونس: 18].
وهذه الأدلة هي دليل المسألة الرابعة: أنهم يريدون ذلك من الله سبحانه، لا منهم، بل أرادوا الواسطة، واتخاذها هو الشرك.
وإذا وازنت بينهم وبين مشركي هذا العصر في هذه الأربع، عرفت أنهم إنما أشركوا في صفات الألوهية، دون الربوبية.
فإن الفطرة السليمة، والعقول المستقيمة تدل عليها.
وأكثر أهل الزمان ظنهم أن الله بعيد عنهم، وأن المخلوق؛ كالنبي، والولي، قريب إليه من الله تعالى.
وهذا عين الشرك بنص الكتاب والسنة، وإجماع أئمة الأمة بالضرورة الشرعية، والعقلية، لولا أن الشياطين اجتالت قلوب المشركين، والطواغيت غيرت الفطرة، وهذا هو الواقع في الخارج، والمشاهد لأهل البصائر.
وقد أشرقت بهذا البيان المطالع، وأسفر الصبح للقارئ، والسامع، والله يقول، وقوله الحق المبين: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [القمر: 17].