الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                                        السنن الكبرى للنسائي

                                                                                                                        النسائي - أحمد بن شعيب النسائي

                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        237 - قوله عز وجل :

                                                                                                                        وفتناك فتونا

                                                                                                                        حديث الفتون

                                                                                                                        11438 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس [ ص: 210 ] عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام : وفتناك فتونا ، فسألته عن الفتون ما هو ؟ قال : استأنف النهار يا ابن جبير ، فإن لها حديثا طويلا ، فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عز وجل وعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ، ما يشكون فيه ، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ، ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر ، فيقل نباتهم ، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا ، فينشأ الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ، فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة ، فلما كان من قابل حملت بموسى ، فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من [ ص: 211 ] الفتون يا ابن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله جل ذكره إليها أن لا تخافي : ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ، وتلقيه في اليم ، فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها ، أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني ؟ لو ذبح عندي ، فواريته وكفنته ، كان أحب إلي أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه ، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فهممن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن : إن في هذا مالا ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا ، حتى دفعنه إليها ، فلما فتحته رأت فيه غلاما ، فألقي عليها منه محبة لم يلق منها على أحد قط ، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره ، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فأتت فرعون فقالت : قرت عين لي ولك ، فقال فرعون : يكون لك ، فأما لي فلا حاجة لي ، [ ص: 212 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي يحلف به ، لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته ، لهداه الله كما هداها ، ولكن الله حرمه ذلك " فأرسلت إلى من حولها ، إلى كل امرأة لها لبن تختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها ، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك ، فأمرت به ، فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ، ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل ، فأصبحت أم موسى والها ، فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرا ، أحي ابني ، أم أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب - والجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى ناحية لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها فقالوا : ما يدريك ما نصحهم ؟ هل تعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فقالت : نصيحتهم له ، وشفقتهم عليه ، رغبتهم في صهر الملك ، ورجاء منفعة الملك ، فأرسلوها ، فانطلقت إلى أمها ، فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه ، فلما وضعته في حجرها ، ثوى إلى ثديها ، فمصه حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها ؛ أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها ، فأتت بها وبه ، فلما [ ص: 213 ] رأت ما يصنع قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئا حبه قط ، قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه ، فأذهب به إلى بيتي ، فيكون معي لا آلوه خيرا ، فعلت ، فإني غير تاركة بيتي وولدي ، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله منجز موعوده ، فرجعت إلى بيتها من يومها ، فأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظ لما قد قضى فيه ، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أزيريني ابني ، فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه .

                                                                                                                        وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤورها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة ، لأرى ذلك فيه ، وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته ، وفرحت به ، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به فرعون ، فلينحلنه وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون ، فمدها إلى الأرض ، قال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه ؟ إنه زعم أن يربك ويعلوك [ ص: 214 ] ويصرعك ؟ فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ابن جبير - بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به فتونا ، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال : ألا ترينه ، إنه يزعم سيصرعني ويعلوني ، قالت : اجعل بيني وبينك أمرا يعرف فيه الحق ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فقربهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤ واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ، ولم يرد اللؤلؤتين ، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل ، فقرب ذلك إليه فتناول الجمرتين ، فنزعوهما منه مخافة أن يحرقا يديه ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به ، وكان الله بالغا فيه أمره ، فلما بلغ أشده ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل الامتناع .

                                                                                                                        فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة ، إذا هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى عليه السلام غضبا شديدا ، لأنه تناوله وهو يعلم منزله من بني إسرائيل ، وحفظه لهم ، لا يعلم الناس إلا أنما ذلك من الرضاع ، إلا أم موسى ، إلا أن يكون الله سبحانه أطلع [ ص: 215 ] موسى عليه السلام من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره ، فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ، ثم قال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ، فأصبح في المدينة خائفا يترقب ، الأخبار ، فأتي فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخذ لنا بحقك ، ولا ترخص لهم ، فقال : ابغوني قاتله من شهد عليه ، فإن الملك ، وإن كان صفوه مع قومه ، لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم ، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا ، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه ، وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي ، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل أمس واليوم : إنك لغوي مبين ، فنظر الإسرائيلي إلى موسى عليه السلام بعدما قال له ما قال ، فإذ هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعدما قال له : إنك لغوي مبين ، أن يكون إياه أراد ، وإنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي ، وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، [ ص: 216 ] وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم ، يمشون على هينتهم يطلبون موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فخرج موسى متوجها نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه تعالى ، فإنه : قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان ، يعني بذلك : حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ فقالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم ، وإنما ننتظر فضول حياضهم ، فسقى لهما ، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا ، حتى كان أول الرعاء ، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى عليه السلام ، فاستظل بشجرة وقال : رب إني لما أنـزلت إلي من خير فقير ، واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا ، فقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلما كلمه ، قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ، ليس [ ص: 217 ] لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ، ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ، فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته وما أمانته ؟ قالت : أما قوته ، فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة ، فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه ، وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ، ثم قال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق ، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين ، فسري عن أبيها وصدقها ، وظن به الذي قالت ، فقال له : هل لك : أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ، ففعل ، فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته ، فأتمها عشرا .

                                                                                                                        قال سعيد : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم ، قال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا ، وأنا يومئذ لا أدري ، فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال : أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة ، لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم لينقص منها شيئا ، ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده ، فإنه قضى عشر سنين ، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك ، قلت : أجل وأولى .

                                                                                                                        [ ص: 218 ] فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله سبحانه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ، يكون له ردءا ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه الله سؤله ، وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون ، وأمره أن يلقاه ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام ، فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا : إنا رسولا ربك ، قال : فمن ربكما ؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن ، قال : فما تريدان ؟ وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت ، قال : أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل ، فأبى عليه وقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين ، فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون ، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ، ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء ، يعني من غير برص ، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول ، فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى - يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش ، فأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب وقالوا له : اجمع لهما السحرة ، فإنهم بأرضك كثير ، حتى تغلب بسحرك سحرهما ، فأرسل في [ ص: 219 ] المدائن فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات ، قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل ، وما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة ، وأن يحشر الناس ضحى ، قال سعيد : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء .

                                                                                                                        فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر ، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ، يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ، فقالوا يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - إما أن تلقي ، وإما أن نكون نحن الملقين ، قال : بل ألقوا ، فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة ، فأوحى الله إليه ، أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها ، فجعلت العصا تلبس بالحبال ، حتى صارت جرزا على الثعبان تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته ، فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرا ، لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكنه أمر من الله ، وآمنا بالله وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه ، [ ص: 220 ] فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ، وامرأة فرعون بارزة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى ، فلما طال مكث موسى بمواعد فرعون الكاذبة ، كلما جاءه بآية ، وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده ، وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله عز وجل على قومه : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده ، حتى أمر موسى بالخروج بقومه ، فخرج بهم ليلا ، فلما أصبح فرعون فرأى أنهم قد مضوا ، أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله تعالى إلى البحر : إذا ضربك عبدي موسى بعصاه ، فانفرق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه ، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا ، فانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه ، وهو غافل ، فيصير عاصيا لله .

                                                                                                                        فلما تراءى الجمعان تقاربا ، قال قوم موسى : إنا لمدركون ، افعل ما أمرك به ربك ، فإنه لم يكذب ، ولم تكذب ، قال : وعدني [ ص: 221 ] ربي إذا أتيت البحر ، انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ، ثم ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه ، وكما وعد موسى ، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ، ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا هلاكه .

                                                                                                                        ثم مروا بعد ذلك : على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ، قد رأيتم من العبر ، وسمعتم ما يكفيكم ، ومضى ، فأنزلهم موسى منزلا ، وقال لهم : أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي ، وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه ، أراد أن يكلمه في ثلاثين يوما ، وقد صامهن ليلهن ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت ؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب ، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح ، قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك ؟ ارجع فصم عشرا ثم ائتني ، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من مصر ، [ ص: 222 ] ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيهم مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحتسبوا ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ، ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيرا ، وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم .

                                                                                                                        وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرا فأخذ منه قبضة ، فمر بهارون ، فقال له هارون عليه السلام : يا سامري ، ألا تلقي ما في يدك ؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، فلا ألقيها بشيء ، إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن تكون عجلا ، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار .

                                                                                                                        قال ابن عباس : لا والله ، ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل من دبره ، وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك .

                                                                                                                        فتفرق بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا سامري ، ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أضل الطريق ، فقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى [ ص: 223 ] يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا ، لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى ، وقالت فرقة : هذا عمل الشيطان ، وليس بربنا ، ولن نؤمن به ولا نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال لهم هارون : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن ، قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا ؟ هذه أربعون قد مضت ، فقال سفهاؤهم : أخطأ ربه ، فهو يطلبه ويتبعه ، فلما كلم الله موسى عليه السلام ، وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ، قال لهم ما سمعتم في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له ، فانصرف إلى السامري فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول ، وفطنت إليها ، وعميت عليكم ، فقذفتها ،وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ، ولو كان إلها لم نخلص إلى ذلك منه ، [ ص: 224 ] فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى ، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة ، نصنعها ، فيكفر عنا ما عملنا ، فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير ، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض ، واستحيا نبي الله صلى الله عليه وسلم من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل ، فقال : لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمان به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فقال : يا رب ، سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ، فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن ، ويأتي أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول ، [ ص: 225 ] ثم سار بهم موسى صلى الله عليه وسلم متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم ، وأبوا أن يقروا بها ، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصطفون ، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم ، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم ، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون ، خلقهم خلق منكر ، وذكر من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها ، فقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ، لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون - قيل ليزيد : هكذا قرأه ؟ قال : نعم - من الجبارين : آمنا بموسى ، وخرجا إليه فقالوا : نحن أعلم بقومنا ، إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب لهم ، ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، ويقول أناس : إنهما من قوم موسى ، فقال الذين يخافون ؛ بنو إسرائيل : قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون فأغضبوا موسى عليه السلام ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك ، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم ، حتى كان [ ص: 226 ] يومئذ ، فاستجاب الله تعالى له ، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين ، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين أظهرهم حجرا مربعا ، وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، في كل ناحية ثلاثة أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من منقلة ، إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان فيه بالأمس
                                                                                                                        . رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس حدث هذا الحديث ، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ، ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ فغضب ابن عباس ، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق ، هل تذكر يوما حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الإسرائيلي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني ما سمع من الإسرائيلي ، شهد على ذلك وحضره .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        الخدمات العلمية