المبحث الثاني: شروط الموقوف عليه
وفيه مطالب:
المطلب الأول: الشرط الأول: أن يكون الموقوف عليه مسلما
وعلى هذا إذا وقف على كافر، فموضع خلاف بين أهل العلم:
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الوقف على جهة خاصة:
وفيها أمور:
الأمر الأول: الوقف على الذمي:
إذا وقف على قريب له، أو طائفة محصورة من أهل الذمة، فاختلف أهل العلم في صحة هذا الوقف على قولين:
القول الأول: صحة هذا الوقف.
وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. [ ص: 419 ]
القول الثاني: صحة الوقف من المسلم على الذمي بشرط كونه قريبا له وهو وجه في مذهب الحنابلة.
الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل القائلون بصحة الوقف على جهة خاصة مطلقا بما يلي:
1 - قول الله تعالي: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وجه الدلالة: أن الله تعالى امتدح الأبرار على إطعامهم الطعام للأسير، والأسير في ذلك الوقت لم يكن إلا مشركا كافرا، فدل ذلك على جواز ومن ذلك الوقف. الصدقة على الكافر،
قال «ما كان أسراهم إلا المشركين ». الحسن البصري:
ويقول «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون الأسير، والأسير قد وصفت صفته، واسم الأسير قد يشتمل على الفريقين، وقد عم الخبر عنهم أنهم يطعمونهم، فالخبر على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له » إلى أن قال: «وكذلك الأسير معني به أسير المشركين والمسلمين يومئذ، وبعد ذلك إلى قيام الساعة ». [ ص: 420 ] ابن جرير:
2 - قول الله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم .
وجه الدلالة: أن الله تعالى أطلق لفظ الفقراء فلم يفرق بين فقير وفقير، فدل على جواز صرف الصدقة إليهم، ومن ذلك الوقف.
3 - قول الله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين وجه الدلالة:
قال أبو بكر الجصاص: « قوله: أن تبروهم وتقسطوا إليهم عمومه في جواز دفع الصدقات إلى أهل الذمة; إذ ليس هم من أهل قتالنا ».
وقال « قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في ابن الجوزي: وإن كانت الموالاة منقطعة منهم ». صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم،
وقال ابن كثير: « أي: لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم ».
وعلى هذا يكون وجه الدلالة من الآية: أنه لا يحرم علينا البر والإحسان إلى الكفار الذين لم يناصبونا الحرب، ولا ينهانا عن ذلك، بل يجيزه لنا، ويحبه منا، ومن البر والإحسان الصدقة عليهم، يقول الكاساني: « صرف [ ص: 421 ] الصدقة إلى أهل الذمة من باب إيصال البر إليهم، وما نهينا عن ذلك، ثم استدل بالآية ».
4 - قول الله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون سبب نزول الآية: أن المسلمين كانوا يكرهون أن يتصدقوا على أقاربهم من المشركين ليدخلوا في الإسلام حاجة إليها، فنزلت الآية لبيان حصول الثواب بالصدقة على الأقارب وإن كانوا مشركين، قال « هذا رأي الجمهور ». ابن الجوزي:
(123 ) 5 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم هشام، عن أبيه، رضي الله عنهما قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك »، أسماء بنت أبي بكر الصديق وفي لفظ: « عن قريش إذ عاهدهم ». وهي مشركة في عهد
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصلة أمها وهي مشركة، فدل على جواز ذلك، ومن أنواع الصلة صدقة التطوع، ومن ذلك الوقف. أسماء
(128 ) 6 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم عن نافع، [ ص: 422 ] رضي الله عنهما قال: عبد الله بن عمر حلة على رجل تباع، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد، فقال: « إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة »، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر منها بحلة، فقال عمر كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟، قال: « إني لم أكسكها لتلبسها، تبيعها أو تكسوها »، فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل عمر: مكة قبل أن يسلم. رأى
وجه الدلالة: أن رضي الله عنه أرسل بهذه الحلة الحريرية التي أعطاه إياها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أخ مشرك على وجه الصدقة أو الهدية، وأقر على ذلك، فدل على أنه مشروع. عمر
7 - لأن في كل دين، والإهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق، حتى وإن كان الموصول والمهدى إليه كافرا. صلة الرحم محمودة
(129 ) 8 - ما رواه قال: حدثنا سعيد بن منصور سفيان، عن أيوب، عن عكرمة: « أن باعت حجرتها من صفية بنت حيي معاوية بمائة ألف، وكان لها أخ يهودي فعرضت عليه أن يسلم فيرث فأبى، فأوصت له بثلث المائة ». [ ص: 423 ]
ونوقش: بأنه في الوصية، وليس في الوقف.
9 - أن جائزة، فيجوز الوقف عليه كالوصية. الوصية للذمي المعين
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - صحة إذا كانوا جهة خاصة; لقوة دليله، وضعف دليل القول الثاني بمناقشته. الوقف على أهل الذمة
الأمر الثاني: الوقف على المعاهد والمستأمن:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في صحة الوقف على المعاهد والمستأمن على قولين:
القول الأول: عدم صحة الوقف على المعاهد، والمستأمن.
وبه قال بعض الشافعية.
وحجته: إلحاقه بالحربي، والحربي لا يصح الوقف عليه.
القول الثاني: صحة الوقف عليهما.
وبه قال بعض الشافعية.
وحجته: إلحاقهما بالذمي، والذمي يصح الوقف عليه.
جاء في حاشية الجمل على المنهج: « أما المعاهد والمؤمن فيلحقان [ ص: 424 ] بالحربي على ما جزم به الدميري، وقال غيره: إنه المفهوم من كلامهم، ورجح الغزي إلحاقهما بالذمي وهو الأوجه إن حل بدارنا ما دام فيها، فإذا رجع صرف لمن بعده، وخص المصنف في نكت التنبيه الخلاف بقوله: وقفت على زيد الحربي أو المرتد كما يشير إليه كلام الكتاب، أما إذا وقف على الحربيين أو المرتدين فلا يصح قطعا، ورجح السبكي فيمن تحتم قتله بالمحاربة أنه كالزاني المحصن.
ونوقش هذا الاستدلال: بالفرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن; إذ الذمي له عهد، ويبذل الجزية، وتجب حمايته.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - عدم صحة الوقف على المعاهد والمستأمن; إذ إلحاقهما بالحربي أقرب من إلحاقهما بالذمي.
الأمر الثالث: الوقف على الحربي، والمرتد:
إذا وقف على جهة خاصة من الحربيين أو المرتدين، كأن يوقف على واحد قريب له، أو طائفة محصورة، فاختلف العلماء في حكم هذا الوقف على قولين:
القول الأول: عدم صحة هذا الوقف.
وهو قول جمهور العلماء: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. [ ص: 425 ]
جاء في شرح مختصر خليل للخرشي: « باطل، وكذلك الصدقة والوصية له باطلة عكس الذمي; لأن ذلك إعانة له على حربه، والمراد بالحربي من كان بدار الحرب كان متصديا للحرب أم لا ». الوقف على الحربي
وجاء في كفاية الأخبار: « الوقف على الحربي والمرتد فإنه لا يصح على الراجح; لأنهما مقتولان فهو وقف على من لا دوام له، فأشبه وقف شيء لا دوام له ».
وفي الشرح الكبير: « (ولا يصح الوقف على حربي ولا مرتد ) ; لأن أموالهم مباحة في الأصل تجوز إزالتها، فما يتجدد لهم أولى، والوقف يجب أن يكون لازما; لأنه تحبيس الأصل ».
وجاء في كشاف القناع: « (ولا ) يصح الوقف أيضا (على حربي، و ) لا على (مرتد ) ; لأن ملكه تجوز إزالته والوقف يجب أن يكون لازما، ولأن إتلاف أنفسهما، والتضييق عليهما واجب، فلا يجوز فعل ما يكون سببا لبقائهما والتوسعة عليهما ».
القول الثاني: صحة هذا الوقف.
وهو وجه في مذهب الشافعية.
في المجموع: « وفي الوقف على المرتد والحربي وجهان: (أحدهما ) يجوز; لأنه يجوز تمليكه، فجاز الوقف عليه كالذمي. [ ص: 426 ]
(والثاني) لا يجوز؛ لأن القصد بالوقف نفع الموقوف عليه، والمرتد والحربي مأمور بقتلهما، فلا معنى للوقف عليهما.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل لهذا القول بما يلي:
1 - قول الله تعالى: إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون مع الآية التي قبلها: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين يقول الجصاص: « قوله: أن تبروهم وتقسطوا إليهم عموم في جواز إذ ليسوا من أهل قتالنا، وفيه النهي عن دفع الصدقات إلى أهل الذمة؛ لقوله: الصدقة على أهل الحرب؛ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين » 2 - لا يجوز صرف الصدقة للحربي؛ لأن في ذلك إعانة لهم على قتالنا، وهذا لا يجوز، وهذا المعنى لم يوجد في الذمي.
3 - انتفاء قصد القربة ؛ فإنها منتفية عمن هو مقتول شرعا، وليس على دين الإسلام. [ ص: 427 ]
4 - أن في الوقف عليهما منابذة لعزة الإسلام؛ لتمام معاندتهما له من أكثر من وجه.
5 - أن إتلاف أنفسهما والتضييق عليهما واجب، فلا يجوز ما يكون سببا لبقائهما، والتوسعة عليهما.
6 - ولأن القصد بالوقف نفع الموقوف عليه، والمرتد والحربي مأمور بقتلهما، فلا معنى للوقف عليهما.
7 - لأن ملكه تجوز إزالته والوقف يجب أن يكون لازما.
دليل القول الثاني: (صحة الوقف على الحربي والمرتد) :
استدل القائلون بصحة الوقف على الحربي والمرتد: بجواز تمليكهما، والمراعى في الوقف التمليك وليس القربة.
ونوقش: بعدم التسليم، بل القربة شرط لصحة الوقف، كما تقدم في مبحث اشتراط القربة لصحة الوقف.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول بعدم صحة الوقف على الحربيين والمرتدين؛ لقوة دليله، وضعف القول الآخر بمناقشته.