المسألة الثانية: وقف المرهون:
إذا لزم شخصا حق من الحقوق المالية، وأعطى مقابل ذلك رهنا، فهل يصح وقف هذا الرهن من قبل الراهن; إذ هو المالك للرهن؟ [ ص: 396 ] أما بالاتفاق; إذ هو غير مالك، وإنما له حق الوثيقة فقط. المرتهن فلا يصح وقفه
أما الراهن، ففي وقفه ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون ذلك بإذن المرتهن:
إذا أذن المرتهن للراهن أن يقف الرهن صح هذا الوقف بالاتفاق; لأن الراهن إنما منع من التصرفات الناقلة للملك لحق المرتهن، فإذا أذن فقد أسقط حقه.
الأمر الثاني: أن يكون ذلك بغير إذن المرتهن، وقبل القبض:
إذا لم يأذن المرتهن للراهن في وقف العين المرهونة، ولم يكن المرتهن قبضها، فوقفها الراهن، فللعلماء في حكم هذا الرهن قولان ينبنيان على حكم لزوم الرهن قبل القبض، أو عدم لزومه:
القول الأول: أن الرهن يلزم بمجرد العقد، وعليه فلا يصح وقف الراهن للرهن.
وهو قول أكثر المالكية، ورواية عن قدمه في الفائق. الإمام أحمد،
القول الثاني: أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض.
وهو قول جمهور الفقهاء: الحنفية، وبعض المالكية، [ ص: 397 ] والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
الأدلة:
أدلة القول الأول: (لزوم الرهن بالعقد ) :
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - قوله تعالى: فرهان مقبوضة وجه الدلالة من وجهين:
الوجه الأول: أنه سبحانه شرط فيه القبض بعد أن أثبتها رهنا، وذلك يفيد أنها قد تكون رهنا وإن لم تقبض.
الوجه الثاني: أنه لا يخلو أن يكون خبرا أو أمرا، ولا يجوز أن يكون خبرا; لأنه لو كان كذلك لم يجز وجود رهن غير مقبوض...فثبت أنه أمر.
ونوقش من أمرين:
الأول: أن الخلاف هنا هو في لزوم الرهن وليس في اسمه، وكونه يسمى رهنا قبل القبض مسلم، لكن لا يكون لازما إلا بقبضه.
الثاني: أن سياق الآية دل على الأمر بقبض هذا الرهن ليحصل به التوثيق، وبدون هذا القبض لا يتم المقصود. [ ص: 398 ]
2 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، فالتصرف بالرهن بعد العقد بما ينقل الملك مخالف للإيفاء بالعقد .
3 - قوله تعالى: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون .
ووجه الاستدلال كما سبق.
4 - أن الرهن عقد من العقود، فلم يكن من شرط انعقاده قبض المعقود عليه.
ونوقش: بأن الخلاف في لزومه، وأنه لا يحصل إلا بالقبض وليس بانعقاده، ولهذا نظائر في العقود منها: عقد البيع لا يلزم إلا بالتفرق من مجلس العقد، وبيع الربوي بالربوي متحدي العلة يصح العقد فيه، لكن شرط بقائه على الصحة التقابض قبل التفرق وإلا بطل.
1 - أن الرهن عقد لازم، فوجب أن يلزم بنفس انعقاده كالبيع.
ونوقش هذا التعليل: بأن هذا استدلال في محل النزاع، وقياسه على البيع مناقش بأنه قياس مع الفارق; لأن البيع عقد معاوضة، والرهن عقد إرفاق.
أدلة القول الثاني: (لزوم الرهن بالقبض ) :
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - قوله تعالى: فرهان مقبوضة [ ص: 399 ] والاستدلال بهذه الآية من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن الله عز وجل وصف الرهن بالقبض، فوجب أن يكون شرطا في صحته، كوصف الرقبة بالإيمان، والاعتكاف بالمسجد، والشهادة بالعدالة، ثم كانت هذه الأوصاف شروطا، فكذا القبض.
ونوقش: بالفرق، حيث إن ما ذكر صفات لأعيان، والرهن عقد، فيلزم بمجرده; إذ القبض صفة منفكة عنه.
الوجه الثاني: أنه ذكر غير الرهن من العقود ولم يصفها بالقبض، وذكر الرهن ووصفه بالقبض، فلا يخلو أن يكون وصف الرهن بالقبض إما لاختصاصه به، أو ليكون تنبيها على غيره، وأيهما كان فهو دليل على لزومه فيه.
ونوقش: بأن وصفه بالقبض لا يدل على عدم لزومه بالعقد.
الوجه الثالث: أن ذكر القبض يوجب فائدة شرعية لا تستفاد بحذف ذكره، ولا فائدة في ذكره إن لم يجعل القبض شرطا في صحته.
ونوقش: بأنه لا يلزم أن يكون ذكره شرطا للصحة، بل ذكر لتأكيد القبض، أو بناء على الغالب، بدليل أن العقد بدون قبض صحيح بالإجماع.
(118 ) 2 - ما رواه من طريق البخاري عامر، عن رضي الله عنه أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ».
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمرتهن بركوب العين المرهونة مما يدل على القبض. [ ص: 400 ]
ونوقش هذا الاستدلال: بأن مجرد بل قد يكون بناء على الغالب، أو لزيادة التوثق، ونحو ذلك. قبض المرتهن للعين المرهونة لا يلزم منه أن يكون شرطا للزوم،
3 - أن الرهن عقد إرفاق يفتقر إلى القبول، فافتقر إلى القبض كالقرض ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: عدم المقيس عليه، فمن العلماء من يرى أن القبض يلزم بمجرد العقد.
الوجه الثاني: أنه استدلال مع الفارق، فالقرض لا ينتفع إلا بقبضه، والرهن يكون وثيقة وإن لم يقبض.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - لزوم الرهن بمجرد العقد، وعلى هذا فلا يصح وقفه بعد العقد، لما يترتب عليه من إبطال حق المرتهن من الوثيقة.
الأمر الثالث: أن يكون بدون إذن المرتهن، وبعد القبض: للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يصح وقف المرهون.
وهو قول جمهور أهل العلم: المالكية، والشافعية، والحنابلة.
القول الثاني: أنه يصح وقف الراهن إن فكها من الرهن ولو بعد مدة، وإن لم يفكها فلا يصح الوقف. [ ص: 401 ]
وهو قول الحنفية.
القول الثالث: صحة وقف الراهن للمرهون مطلقا.
وهو قول عند الشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أدلة القول الأول: (عدم الصحة مطلقا ) :
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - قوله تعالي: فرهان مقبوضة .
وجه الدلالة: دلت الآية على وفي تجويز وقف الرهن إبطال لحق المرتهن من الوثيقة، فلم يكن في مشروعيته فائدة. مشروعية الرهن،
(119 ) 2 - ما رواه من طريق أحمد عن جابر، عكرمة، عن رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ابن عباس [ ص: 402 ] لا ضرر ولا ضرار ».
وفي وقف المرهون ضرر بالمرتهن.
3 - القاعدة الفقهية : (أن المشغول لا يشغل ) .
4 - أن في وقف الراهن للمرهون إبطالا لحق المرتهن، فيحرم، والوقف قربة، ولا يتقرب بالمحرمات وإسقاط الحقوق. [ ص: 403 ]
دليل القول الثاني: (الصحة إن كان الرهن موسرا )
أن الرهن مجرد وثيقة، ووقفه لا يضيع حق المرتهن مع الاحتياط له بما ذكر من شرط إمكان الرجوع على الموسر.
ونوقش: بأنه لا يسلم أن حق المرتهن لا يضيع، بل يضيع حقه من الوثيقة; إذ الموسر قد يعسر، وقد يماطل.
أدلة القول الثالث: (الصحة مطلقا ) :
استدل للقول بصحة وقف المرهون بما يلي:
1 - أن الوقف صدر من مالك، فيصح; لصدوره من أهله.
ونوقش: بالتسليم، لكن هذا الملك غير متمحض; لتعلق حق المرتهن.
2 - القياس على العتق، فكما يصح عتق الراهن كذا وقفه ; لبناء العتق على السراية والتغليب.
ونوقش: بعدم تسليم عتق المرهون; لتعلق حق المرتهن، فلا يتقرب إلى الله عز وجل بإسقاط الحق.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - عدم صحة لقوة دليله، وضعف القولين الآخرين بمناقشتهما. وقف المرهون من قبل الراهن;
* * * [ ص: 404 ]