المبحث الرابع حكم قبول الوصية
اختلف الفقهاء رحمهم الله في : حكم قبول الوصية
القول الأول: يستحب للموصى له قبول الوصية، وعدم ردها إذا لم يكن عليه ضرر في قبولها.
وهو قول جمهور أهل العلم.
القول الثاني: وجوب قبول الوصية.
فقد ذهب إلى وجوب قبول العطايا كلها وحرمة ردها، وتدخل في ذلك الوصية. ابن حزم
وقال عبد الله بن عون : "الأولى ردها وعدم قبولها لمن كان غنيا عنها".
الأدلة:
أدلة الجمهور: (الاستحباب):
استدل لهذا القول بما يلي:
[ ص: 185 ] 1 - قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا
وجه الدلالة: أن الله عز وجل أمر بالأكل مما تهبه الزوجة لزوجها من صداقها، والأكل غير متعين، فدل على عدم وجوب قبول الوصية.
(74) 2 - ما رواه من طريق البخاري ، عن الزهري ، عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: سألت رسول الله، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم بن حزام حكيم ، أن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى"، قال حكيم : فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان رضي الله عنه يدعو أبو بكر حكيما إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر : إني أشهدكم يا معشر المسلمين على عمر حكيم ، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه ، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي. أن
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر على ألا يقبل من أحد شيئا. حكيم بن حزام
[ ص: 186 ] (75) 3 - ما رواه من طريق مسلم ، عن عبد الرحمن الأعرج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة . "من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح"
(76) وروى من طريق الترمذي عبد الله بن مسلم ، عن أبيه، عن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عمر . "ثلاث لا ترد: الوسائد، والدهن، واللبن"
(حسن).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رد بعض أنواع الهبات، فدل ذلك على جواز رد ما سواها من العطايا، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر وجه.
4 - اقتداء برسول الله في قبوله وصية البراء له بثلث ماله، ووصية مخيريق له بجميع ماله.
فقد روى : الواقدي مخيريق اليهودي من أحبار اليهود، فقال يوم السبت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد: يا معشر اليهود، إنكم لتعلمون أن محمدا نبي، وأن نصره عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت، ثم أخذ سلاحه، ثم حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه القتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود، وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد ، قال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله" . "كان
[ ص: 187 ] 5 - مساعدة الموصي على حصول أجر الوصية، وثوابها له.
6 - أنه لا يجبر أحد على تملك شيء بغير إرادته; لقوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
والوصية أولى بهذا الحكم; لما يلحق الموصى له من المنة التي قد لا يتحملها، فلا يجبر على قبولها.
7 - أن في إلزامه القبول إضرارا به؛ لما قد يترتب على تملك الوصية من واجبات، كان في غنى عنها، فلا يجبر على قبولها; لحديث: ؛ ولذلك يجب تأويل الأحاديث السابقة، يحمل الأمر على الندب جمعا بين الأدلة. "لا ضرر [ ص: 188 ] ولا ضرار"
وحجة من قال: الأولى تركها: القياس على الصدقة، فإن الأفضل تركها للغني،
(77) فقد روى البخاري من طريق ومسلم ، عن نافع رضي الله عنهما عبد الله بن عمر . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة، والتعفف، والمسألة: "اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا: هي المنفقة، والسفلى: هي السائلة"
أدلة القول الثاني: (الوجوب):
استدل لهذا الرأي بما يلي:
(78) 1 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم ، عن ابن شهاب ، عن أبيه رضي الله عنهما سالم بن عبد الله رضي الله عنه العطاء، فيقول له عمر بن الخطاب : أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف، ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك" قال سالم: فمن أجل ذلك كان عمر لا يسأل أحدا شيئا، ولا يرد شيئا أعطيه" ابن عمر . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رضي الله عنه أن يأخذ ما أتاه من غير إشراف [ ص: 189 ] ولا مسألة، فلفظ: "ما جاءك" عام، والعام الوارد على سبب خاص معتبر عمومه; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول الأصوليون . عمر
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: أن هذا الأمر أمر ندب، فقد نقل ابن حجر عن أن أهل العلم أجمعوا على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم الطبري رضي الله عنه: (خذه)، أمر ندب. لعمر
الثاني: أن هذا الحديث إنما هو في العطايا التي هي من بيت المال.
الثالث: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ المال في هذا الحديث; لكونه عمل له عملا فيكون قد أعطاه بذلك حقه. عمر
2 - ما تقدم من قبول النبي صلى الله عليه وسلم للوصية.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب.
(79) 3 - ما رواه من طريق مسلم ، عن بسر بن سعيد ابن الساعدي المالكي أنه قال: استعملني رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت، فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمني، فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر بن الخطاب "إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق" .
ونوقش الاستدلال: بما نوقش به الدليل السابق.
(80) 4 - ما رواه الإمام من طريق أحمد ، عن إسرائيل ، عن [ ص: 190 ] الأعمش شقيق ، عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود . "أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين"
والوصية ملحقة بالهدية بجامع التبرع.
ونوقش الاستدلال لهذا الحديث: أن النهي هنا للكراهة; لما تقدم من أدلة الجمهور.
(81) 4 - ما رواه : حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن حبيب قال: "رأيت ابن عمر وابن عباس يأتيهما هدايا المختار فيقبلانها". ابن أبي شيبة
(82) 5 - ما رواه من طريق ابن أبي شيبة قال: "أرسل معي عبد الملك بن عمير بخمسمائة إلى خمسة أناس؛ إلى بشر بن مروان ، وإلى [ ص: 191 ] أبي جحيفة أبي رزين ، وعمرو بن ميمون ، ومرة ، وأبي عبد الرحمن ، فردها أبو رزين ، ، وأبو جحيفة وعمرو بن ميمون ، وقبلها الآخرون" .
(83) 6 - ما رواه من طريق ابن أبي شيبة سماك بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند رضى الله عنها "فأتاها رسول من عند عائشة معاوية بهدية فقبلتها .
(84) 7 - ما رواه من طريق ابن حزم ، نا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني أبي رافع ، عن رضي الله عنه قال: "ما أحد يهدي إلي هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلم أكن لأسأل" . أبي هريرة
(85) 8 - ما رواه من طريق ابن حزم ، نا الحجاج بن المنهال ، نا مهدي بن ميمون واصل مولى أبي عيينة ، عن صاحب له، أن رضي الله عنه قال: من آتاه الله عز وجل من هذا المال شيئا من غير مسألة، ولا إشراف فليأكله وليتموله" . أبا الدرداء
. والوصية ملحقة بالهدية بجامع التبرع
ونوقشت هذه الآثار: أنها محمولة على الاستحباب; لما تقدم من أدلة الجمهور.
9 - من جهة النظر، فإن رد الوصية بعد موت الموصي حرمان له من أجر وصيته، وصد عن سبيل من سبل الخير; لتعذر استدراك ذلك على الموصي، وذلك مخالفة لما فرضه الله من النصح للمسلم;
[ ص: 192 ] (86) لما رواه من طريق مسلم عطاء بن يزيد ، عن رضي الله عنه: تميم الداري . أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النصيحة ليست واجبة على سبيل الإطلاق، ومن ذلك النصيحة بقبول الوصية; لما تقدم من أدلة القول الأول.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم -: استحباب قبول الوصية ; لقوة الدليل على ذلك، ولمناقشة الدليل المخالف.
[ ص: 193 ]