الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المطلب الثاني: شراء الواهب هبته من غير الموهوب له

        صورة ذلك: أن يبيع الموهوب له الهبة، أو يتصدق بها، أو يهبها فهل للواهب أن يشتريها ممن انتقلت إليه؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:

        القول الأول: أن النهي يتعلق بشرائها من الموهوب له دون غيره.

        وهو قول الشافعية، حيث نصوا على هذا في الصدقة، فالهبة من باب أولى.

        القول الثاني: أنه لا فرق بين الموهوب له وغيره.

        وهو قول المالكية، والحنابلة.

        حيث نصوا على هذا في الصدقة، والهبة من باب أولى.

        وعند المالكية: أن النهي يتعلق بالهبة التي لا تعتصر.

        بل الحنابلة ينصون على أن حكم الهبة في هذه المسألة حكم الصدقة.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (الحكم متعلق بالموهوب له):

        1- قول عمر -رضي الله عنه-: "وظننت أنه يبيعه برخص" وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [ ص: 210 ] ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم".

        قال القرطبي: "قوله (فظننت أنه بائعه برخص) إنما ظن ذلك; لأنه هو الذي كان أعطاه إياه، فتعلق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزء من الثمن، وحينئذ يكون ذلك رجوعا في عين ما تصدق به في سبيل الله، ولما فهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا نهاه عن ابتياعه، وسمى ذلك عودا فقال: (لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك) ".

        فهذا التعليل يقتضي الفرق بين أن تشتريها ممن يسامحك في ثمنها; فتكون راجعا في القدر الذي سومحت فيه، وبين أن تشتريها ممن لا يسامحك في شيء من ثمنها.

        قال ابن مفلح: "ظاهر التعليل بأنه يسامحه يقتضي الفرق".

        2- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه".

        وجه الدلالة: أن شراء الواهب للهبة من غير الموهوب له ليس فيه عود في الهبة; لأن الهبة تحولت عن أن تكون هبة بانتقال ملكيتها إلى غير الموهوب له.

        وبالتالي يكون اشتراؤه لها كأي سلعة أخرى.

        (263) 3- ما رواه البخاري ومسلم من طريق قتادة، عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بلحم تصدق به على بريرة -رضي الله عنها- فقال: "هو عليها صدقة وهو لنا هدية". [ ص: 211 ]

        قال ابن حجر: "أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أهله أن تلك الهدية بعينها خرجت عن كونها صدقة بتصرف المتصدق عليه فيها".

        والهبة أولى من الصدقة.

        (264) 4- ما روى ابن أبي شيبة من طريق الحسن قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "إذا تحولت الصدقة إلى غير الذي تصدق عليه، فلا بأس أن يشتريها".

        (265) وجاء عن الحسن البصري -وهو راوي الأثر عن عمر رضي الله عنه- ومحمد بن سيرين أنهما كرها أن يشتري الرجل شيئا من صدقة ماله حتى يحول من عند المصدق.

        5- أن غير الموهوب له إذا باعها فإنه لن يسامح في ثمنها، فقد تكون انتقلت إليه بغلاء أو بثمن مثلها، أو يريد الكسب من ورائها، ولا مانع يمنعه من ذلك، بخلاف الموهوب له، فإنه سيسامح المتصدق في ثمنها حياء منه.

        دليل القول الثاني: (أن النهي عن الشراء من الموهوب له وغيره):

        1- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه".

        وإذا اشترى الواهب الهبة عادت إليه الهبة، فيشمله نهي الحديث.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم; لما تقدم من الفرق بين شرائها من الموهوب له وغيره، كما في أدلة القول الأول. [ ص: 212 ]

        (266) 2- ما رواه البخاري ومسلم من طريق السائب بن يزيد، عن العلاء الحضرمي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا".

        وجه الدلالة: أن ما أخرجه الإنسان لله تعالى وطلبا لمرضاته، فإنه لا يعود فيه؛ ولهذا منع المهاجر من الإقامة بمكة بعد الحج; لأنه تركها لله عز وجل.

        ونوقش: بعدم التسليم بأن شراءها من غير الموهوب له رجوع في الهبة; لما تقدم في أدلة الرأي الأول.

        لذا يقول القرطبي: "لا يليق بمكارم الأخلاق أن يعود في شيء خرج عنه على وجه المعروف، ولا بأهل الدين أن يرجعوا في شيء خرجوا عنه لله تعالى بوجه، فكان مكروها من هذا الوجه".

        الترجيح:

        يظهر -والله أعلم- أن كلا من القولين له قوة، لكن القول الأول أقوى من حيث الدليل، والثاني أحوط. [ ص: 213 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية