الفصل الثالث: تملك الأب من مال ولده [ ص: 522 ] [ ص: 523 ]
الفصل الثالث: تملك الأب من مال ولده
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن للأب الأخذ والتملك من مال ولده ما شاء، مع حاجة الأب إلى ما أخذه ومع عدمها، صغيرا كان الولد أو كبيرا.
وهذا مذهب الحنابلة.
واشترطوا لتملك الأب من مال ولده شروطا هي:
الأول: أن لا يضر بالابن، ولا يجحف به، ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته وهو منفي.
لما رواه الإمام من طريق أحمد عكرمة، عن رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس "لا ضرر ولا ضرار".
ولأن الولد أحق بما تعلقت به حاجته.
الثاني: أن لا يأخذ من مال ولد فيعطيه لولد آخر.
وذلك لأنه ممنوع من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه، فلأن يمنع من تخصيصه بما أخذ من مال ولده الآخر أولى.
[ ص: 524 ] الثالث: أن يكون التملك بالقبض مع القول أو النية، ولا يتصرف الأب فيه قبل تملكه، فإن تصرف قبل تملكه لم يصح تصرفه.
لأن القبض يكون للتملك وغيره، فاعتبر ما يعين وجهه.
وعليه فلا يجوز للأب الهبة من مال ولده إلا بعد أن يأخذه ويتملكه.
الرابع: أن يكون ما تملكه الأب عينا موجودة، فلا يصح أن يتملك دين ولده; وعند شيخ الإسلام: يملك الأب إسقاط دين الابن عن نفسه; لأن الولد لا يملك التصرف فيه قبل قبضه.
وعليه فلا يجوز للأب أن يهب دين ولده بإسقاطه.
الخامس: أن لا يكون الأب كافرا والولد مسلما، وأن لا يكون الولد كافرا والأب مسلما; لانقطاع الولاية والتوارث بينهما.
السادس: أن لا يكون التملك في مرض موت أحدهما; لانعقاد السبب القاطع للتملك، قال المرداوي: "قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: قياس المذهب: أنه ليس للأب أن يتملك من مال ابنه في مرض موت الأب ما يخلف تركة; لأنه بمرضه قد انعقد السبب القاطع لتملكه، فهو كما لو تملك في مرض موت الابن".
القول الثاني: أنه ليس للأب الأخذ والتملك من مال ولده إلا بقدر حاجته، فإذا لم تكن به حاجة لا يجوز له أخذ شيء من مال ولده.
[ ص: 525 ] وهذا مذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، والشافعية.
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول: (جواز التملك ) ; 1 - قوله تعالى: ووهبنا له إسحاق ويعقوب ، وقوله: ووهبنا له يحيى ، وقال عن زكريا: فهب لي من لدنك وليا وقال الله على لسان إبراهيم: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق وما كان موهوبا له كان له أخذ ماله، كعبده.
يؤيد هذا قول في قوله تعالى: سفيان بن عيينة ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ثم ذكر بيوت سائر القرابات إلا الأولاد لم يذكرهم; لأنهم دخلوا في قوله: بيوتكم فلما كانت بيوت أولادهم كبيوتهم، لم يذكر بيوت أولادهم.
(221 ) 2 - ما رواه من طريق ابن ماجه عمارة بن عمير، عن عمته، عن [ ص: 526 ] رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولد الرجل من كسبه".
[ ص: 527 ] [ ص: 528 ] ونوقش حديث رضي الله عنها: بأنه مقيد برواية عائشة الحاكم للحديث والتي فيها: والبيهقي "وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها".
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة: بأن هذه الزيادة منكرة، كما قال وتابعه أبو داود ابن حجر; وهي وهم من كما قال حماد بن أبي سليمان سفيان.
(222 ) 3 - ما رواه من طريق ابن ماجه حدثنا عيسى بن يونس، يوسف ابن إسحاق، عن عن محمد بن المنكدر، رضي الله عنهما جابر بن عبد الله (صحيح ) . أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك"
[ ص: 529 ] وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لمن شكا أباه اجتياح ماله الحق في [ ص: 530 ] الاعتراض على ذلك، بل أخبره أن ماله لأبيه بقوله: ولم يسأله هل أبوه محتاج لما أخذ أم لا؟. "أنت ومالك لأبيك"
(223 ) 4 - ما رواه من طريق ابن ماجه حجاج، عن عن أبيه، عن جده قال: عمرو بن شعيب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي اجتاح مالي. فقال: "أنت ومالك لأبيك"، "إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من أموالهم".
[ ص: 531 ] وجه الدلالة: بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أن أحل ما أكل الرجل، وأهنأه هو ما كسبه بنفسه دون واسطة، ثم جعل الأولاد من كسب الرجل، فدل على أن أكل الرجل من مال ولده كأكله من مال نفسه الذي كسبه دون واسطة، بل إنه جعله من أطيب ذلك، فقال في رواية أبي داود والنسائي "ولد الرجل من كسبه، من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم".
واللام: في قوله: قال "لأبيك"، ابن رسلان: "اللام للإباحة لا للتمليك، فإن مال الولد له وزكاته عليه وهو موروث عنه".
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه محمول على أخذ قدر الحاجة.
وأما اجتياح والد المشتكي ماله، فيقول "يشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله: إنما هو بسبب النفقة عليه، وأن مقدار: [ ص: 532 ] ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيء كثير، ولا يسعه عفو ماله والفضل منه، إلا بأن يجتاح أصله، ويأتي عليه، فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص له في ترك النفقة، وقال له: الخطابي: على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة، كما يأخذ من مال نفسه". (أنت ومالك لأبيك)
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة: بأنها حمل للحديثين على محمل دون دليل، لاسيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من الشاكي عن حال أبيه في الحديث الثاني مما يدل على عموم الحديث.
5 - ولأن الرجل يلي مال ولده من غير تولية، فكان له التصرف فيه كمال نفسه.
أدلة القول الثاني: (عدم الجواز ) :
1 - قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .
(224 ) 2 - ما رواه من طريق مسلم جعفر بن محمد، عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جابر بن عبد الله "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
3 - حديث رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر "لا يحلبن أحد شاة أحد إلا بإذنه".
نوقش هذا الاستدلال: بأن هذه الأخبار الواردة في [ ص: 533 ] مخصوصة بالأحاديث التي استدل بها المجوزون، ومفسرة بها، فلا تنافي بينها". تحريم مال الغير
(225 ) 4 - ما رواه عن سعيد بن منصور، حبان بن أبي جبلة، عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين".
ونوقش من وجهين:
الأول: أنه حديث مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف.
الثاني: أنه يدل على ترجيح حق الولد على حق الوالد في المال لا على نفي الحق بالكلية، والولد أحق من الوالد بما تعلقت به حاجته.
(226 ) 5 - ما رواه من طريق الحاكم حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عائشة "إن أولادكم هبة الله لكم، يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها".
[ ص: 534 ] 6 - أن الله تعالى ورث الأب من ابنه السدس مع والد ولده، فلو كان الأب يملك مال الابن لم يكن لغير الأب شيء مع وجوده، ولحازه كله.
الترجيح:
بعد عرض القولين للفقهاء في هذه المسألة، وأدلة كل قول، وما ناقش به كل فريق أدلة الآخرين; يتبين لي أن القول الراجح هو قول الحنابلة، القائلين بجواز أخذ الأب وتملكه من مال ولده، سواء كان محتاجا إلى ما أخذ أو غير محتاج بالشروط التي ذكروها; لكون كل شرط عليه دليل يوجبه.