الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        القسم الثالث:

        الهدية للموظف من شخص له حاجة تتعلق بوظيفة الموظف، وبذلها قبل إنهاء الوظيفة، سواء كان بينهما مهاداة، أو لا.

        هذه الهدية: يحرم على الموظف قبولها; لأنها كالرشوة بالنسبة له، ويدل للتحريم:

        (156 ) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عروة، أخبرنا أبو حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم، وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي [ ص: 332 ] بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ألا هل بلغت؟ ثلاثا".

        وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن اللتبية قبوله لما أهدي إليه; لأن هذه الهدية كانت مقابل عمالته، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "فهلا جلس في بيت أبيه، أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟" فدل على تحريم قبول العمال والقضاة ما أهدي إليهم إذا لم تجر العادة بالإهداء قبل تولي العمل.

        قال ابن القيم: "وتأمل قوله في قصة ابن اللتبية" أفلا جلس في بيت أبيه وأمه وقال: هذا أهدي لي" كيف يجد تحت هذه الكلمة الشريفة أن الدوران يفيد العلية، والأصولي ربما كد خاطره حتى قرر ذلك بعد الجهد، فدلت هذه الكلمة النبوية على أن الهدية لما دارت مع العمل وجودا وعدما كان العمل سببها وعلتها; لأنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لانتفت الهدية، وإنما وجدت بالعمل فهو علتها".

        قال ابن باز: "الواجب على المعلمة ترك قبول الهدايا; لأنها قد تجرها [ ص: 333 ] إلى الحيف وعدم النصح في حق من لم يهد لها، والزيادة بحق المهدية والغش، فالواجب على المدرسة أن لا تقبل الهدية من الطالبات بالكلية; لأن ذلك قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، والمؤمن والمؤمنة عليهما أن يحتاطا لدينهما، ويبتعدا عن أسباب الريبة والخطر، أما بعد انتقالها من المدرسة إلى مدرسة أخرى فلا يضر ذلك; لأن الريبة قد انتهت حينئذ والخطر مأمون، وهكذا بعد فصلها من العمل أو تقاعدها إذا أهدوا إليها شيئا فلا بأس".

        وقال ابن عثيمين: "لا يجوز للمدرسة أن تقبل هدية من الطالبة; لأن هذا داخل في عموم الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده: (هدايا العمال غلول) ، ولأن الهدية ستوجب المودة، كما جاء في الحديث: (تهادوا تحابوا) ، فإذا ازدادت محبتها لهذه التلميذة يخشى عليها أن تحيف، فيجب عليها أن ترفض، أي: يجب على المعلمة أن ترفض الهدية، وتقول: لا أقبل".

        (157 ) 2 - ما رواه الإمام أحمد من طريق إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هدايا العمال غلول".

        [ ص: 334 ] (158 ) 3 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق الأعمش، عن شقيق قال: قدم معاذ من اليمن برقيق في زمن أبي بكر، فقال له عمر: ارفعهم إلى أبي بكر، فقال: ولم أرفع إليه رقيقي؟ قال: فانصرف إلى منزله ولم يرفعهم، فبات ليلة، ثم أصبح من الغد، فرفعهم إلى أبي بكر، فقال له عمر: "ما بدا لك؟ قال: رأيتني فيما يرى النائم كأني إلى نار أهدى إليها، فأخذت بحجزتي فمنعتني من دخولها، فظننت أنهم هؤلاء الرقيق، فقال أبو بكر: هم لك، فلما انصرف إلى منزله قام يصلي فرآهم يصلون خلفه، فقال: لم تصلون؟ فقالوا: لله، فقال: اذهبوا أنتم لله".

        (159 ) 4 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن عبيد الطائي، عن علي بن ربيعة أن عليا استعمل رجلا من بني أسد يقال له ضبيعة بن زهير، أو زهير بن ضبيعة، فلما جاء قال: "يا أمير المؤمنين إني أهدي إلي في عملي أشياء وقد أتيتك بها، فإن كانت حلالا أكلتها، وإلا فقد أتيتك بها، فقبضها علي، وقال: لو حبستها كان غلولا".

        (160 ) 5 - ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا ابن مهدي، عن شعبة، عن أبي قزعة، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "هدايا الأمراء غلول".

        (161 ) 6 - ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا من طريق أبي قزعة، عن أبي يزيد المديني قال: سئل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن هدايا الأمراء فقال: "هي في نفسي غلول".

        [ ص: 335 ] قال الشوكاني: "فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء، فإن للإحسان تأثير في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا، ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه، بل من الأقارب فضلا عن سائر الناس، فكان في ذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه، أسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه، وقد ذكر المغربي في شرح (بلوغ المرام ) في شرح حديث الرشوة كلاما في غاية السقوط، فقال ما معناه: إنه يجوز أن يرشي من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع باطل، وكذلك قال: يجوز للمرتشي أن يرتشي إذا كان ذلك في حق لا يلزمه فعله، وهذا أعم مما قاله المنصور بالله ومن معه كما تقدمت الحكاية لذلك عنهم; لأنهم خصوا الجواز بالراشي وهذا عممه في الراشي والمرتشي، وهو تخصيص بدون مخصص، ومعارضة لعموم الحديث بمحض الرأي الذي ليس عليه أثارة من علم، ولا يغتر بمثل هذا إلا من لا يعرف كيفية الاستدلال، والقائل رحمه الله - كان قاضيا".

        تنبيه: يلحق بهذه الهدية في التحريم: قبول الموظف استضافته في سفره المار فيه في محل وظيفته عند من له حاجة متعلقة بعمله لم تنته بعد; لأنها ذريعة للرشوة.

        [ ص: 336 ] القسم الرابع:

        الهدية للموظف من غير ذي رحمه المحرم، ولم يكن يهدي له قبل توليته الوظيفة، ولا حاجة له عند الموظف تتعلق بوظيفته.

        اختلف الفقهاء في قبول الموظف لهذه الهدية على قولين:

        القول الأول: يحرم على الموظف قبولها.

        وإليه ذهب جمهور المذاهب الأربعة.

        واستدلوا:

        1 - ما تقدم من الآثار في القسم الثالث.

        2. التهمة بالرشوة في هذه الهدية موجودة; لأن سببها ظاهر، وهو الوظيفة; ويخشى حدوث حاجة للمهدي، فتكون وسيلة لاستمالة قلب الموظف.

        قال ابن قدامة: "ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها; ليتوصل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه، فلم يجز قبولها منه كالرشوة".

        القول الثاني: يكره قبولها.

        وإليه ذهب الصنعاني.

        [ ص: 337 ] وحجته:

        1 - أن الأصل الحل.

        ونوقش: بعدم التسليم لهدايا العمال، كما تقدم الدليل على ذلك.

        2 - عدم حاجته تنفي التهمة بالرشوة.

        ونوقش: بأنه قد تحدث له حاجة مستقبلا.

        الترجيح:

        الراجح القول الأول - تحريم قبول هذه الهدية - ; لقوة دليله، والأحاديث الواردة في النهي عن هدايا العمال عامة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية