القسم الثالث:
سواء كان بينهما مهاداة، أو لا. الهدية للموظف من شخص له حاجة تتعلق بوظيفة الموظف، وبذلها قبل إنهاء الوظيفة،
هذه الهدية: يحرم على الموظف قبولها; لأنها كالرشوة بالنسبة له، ويدل للتحريم:
(156 ) 1 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم أخبرنا عروة، رضي الله عنه قال: أبو حميد الساعدي بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم، وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي [ ص: 332 ] بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ألا هل بلغت؟ ثلاثا". استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن اللتبية قبوله لما أهدي إليه; لأن هذه الهدية كانت مقابل عمالته، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فدل على تحريم "فهلا جلس في بيت أبيه، أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟" قبول العمال والقضاة ما أهدي إليهم إذا لم تجر العادة بالإهداء قبل تولي العمل.
قال ابن القيم: "وتأمل قوله في قصة ابن اللتبية" كيف يجد تحت هذه الكلمة الشريفة أن الدوران يفيد العلية، والأصولي ربما كد خاطره حتى قرر ذلك بعد الجهد، فدلت هذه الكلمة النبوية على أن الهدية لما دارت مع العمل وجودا وعدما كان العمل سببها وعلتها; لأنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لانتفت الهدية، وإنما وجدت بالعمل فهو علتها". أفلا جلس في بيت أبيه وأمه وقال: هذا أهدي لي"
قال ابن باز: والزيادة بحق المهدية والغش، فالواجب على المدرسة أن لا تقبل الهدية من الطالبات بالكلية; لأن ذلك قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، والمؤمن والمؤمنة عليهما أن يحتاطا لدينهما، ويبتعدا عن أسباب الريبة والخطر، أما بعد انتقالها من المدرسة إلى مدرسة أخرى فلا يضر ذلك; لأن الريبة قد انتهت حينئذ والخطر مأمون، وهكذا بعد فصلها من العمل أو تقاعدها إذا أهدوا إليها شيئا فلا بأس". "الواجب على المعلمة ترك قبول الهدايا; لأنها قد تجرها [ ص: 333 ] إلى الحيف وعدم النصح في حق من لم يهد لها،
وقال ابن عثيمين: "لا يجوز للمدرسة أن تقبل هدية من الطالبة; لأن هذا داخل في عموم الحديث الذي أخرجه في مسنده: أحمد ، ولأن الهدية ستوجب المودة، كما جاء في الحديث: (هدايا العمال غلول) ، فإذا ازدادت محبتها لهذه التلميذة يخشى عليها أن تحيف، فيجب عليها أن ترفض، أي: يجب على المعلمة أن ترفض الهدية، وتقول: لا أقبل". (تهادوا تحابوا)
(157 ) 2 - ما رواه الإمام من طريق أحمد عن إسماعيل بن عياش، يحيى بن سعيد، عن عن عروة بن الزبير، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي حميد الساعدي "هدايا العمال غلول".
[ ص: 334 ] (158 ) 3 - ما رواه من طريق ابن أبي شيبة عن الأعمش، شقيق قال: قدم من معاذ اليمن برقيق في زمن فقال له أبي بكر، ارفعهم إلى عمر: فقال: ولم أرفع إليه رقيقي؟ قال: فانصرف إلى منزله ولم يرفعهم، فبات ليلة، ثم أصبح من الغد، فرفعهم إلى أبي بكر، فقال له أبي بكر، "ما بدا لك؟ قال: رأيتني فيما يرى النائم كأني إلى نار أهدى إليها، فأخذت بحجزتي فمنعتني من دخولها، فظننت أنهم هؤلاء الرقيق، فقال عمر: هم لك، فلما انصرف إلى منزله قام يصلي فرآهم يصلون خلفه، فقال: لم تصلون؟ فقالوا: لله، فقال: اذهبوا أنتم لله". أبو بكر:
(159 ) 4 - ما رواه من طريق ابن أبي شيبة سعيد بن عبيد الطائي، عن علي بن ربيعة أن استعمل رجلا من عليا بني أسد يقال له ضبيعة بن زهير، أو زهير بن ضبيعة، فلما جاء قال: "يا أمير المؤمنين إني أهدي إلي في عملي أشياء وقد أتيتك بها، فإن كانت حلالا أكلتها، وإلا فقد أتيتك بها، فقبضها علي، وقال: لو حبستها كان غلولا".
(160 ) 5 - ما رواه حدثنا ابن أبي شيبة: عن ابن مهدي، عن شعبة، أبي قزعة، عن أبي نظرة، عن رضي الله عنه قال: "هدايا الأمراء غلول". أبي سعيد
(161 ) 6 - ما رواه حدثنا من طريق ابن أبي شيبة: أبي قزعة، عن أبي يزيد المديني قال: سئل رضي الله عنهما عن هدايا الأمراء فقال: "هي في نفسي غلول". جابر بن عبد الله
[ ص: 335 ] قال الشوكاني: "فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء، فإن للإحسان تأثير في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا، ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه، بل من الأقارب فضلا عن سائر الناس، فكان في ذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه، أسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه، وقد ذكر المغربي في شرح (بلوغ المرام ) في شرح حديث الرشوة كلاما في غاية السقوط، فقال ما معناه: إنه يجوز أن يرشي من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع باطل، وكذلك قال: يجوز للمرتشي أن يرتشي إذا كان ذلك في حق لا يلزمه فعله، وهذا أعم مما قاله المنصور بالله ومن معه كما تقدمت الحكاية لذلك عنهم; لأنهم خصوا الجواز بالراشي وهذا عممه في الراشي والمرتشي، وهو تخصيص بدون مخصص، ومعارضة لعموم الحديث بمحض الرأي الذي ليس عليه أثارة من علم، ولا يغتر بمثل هذا إلا من لا يعرف كيفية الاستدلال، والقائل رحمه الله - كان قاضيا".
تنبيه: يلحق بهذه الهدية في التحريم: لأنها ذريعة للرشوة. قبول الموظف استضافته في سفره المار فيه في محل وظيفته عند من له حاجة متعلقة بعمله لم تنته بعد;
[ ص: 336 ] القسم الرابع:
الهدية للموظف من غير ذي رحمه المحرم، ولم يكن يهدي له قبل توليته الوظيفة، ولا حاجة له عند الموظف تتعلق بوظيفته.
اختلف الفقهاء في قبول الموظف لهذه الهدية على قولين:
القول الأول: يحرم على الموظف قبولها.
وإليه ذهب جمهور المذاهب الأربعة.
واستدلوا:
1 - ما تقدم من الآثار في القسم الثالث.
2. التهمة بالرشوة في هذه الهدية موجودة; لأن سببها ظاهر، وهو الوظيفة; ويخشى حدوث حاجة للمهدي، فتكون وسيلة لاستمالة قلب الموظف.
قال "ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها; ليتوصل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه، فلم يجز قبولها منه كالرشوة". ابن قدامة:
القول الثاني: يكره قبولها.
وإليه ذهب الصنعاني.
[ ص: 337 ] وحجته:
1 - أن الأصل الحل.
ونوقش: بعدم التسليم لهدايا العمال، كما تقدم الدليل على ذلك.
2 - عدم حاجته تنفي التهمة بالرشوة.
ونوقش: بأنه قد تحدث له حاجة مستقبلا.
الترجيح:
الراجح القول الأول - تحريم قبول هذه الهدية - ; لقوة دليله، والأحاديث الواردة في النهي عن هدايا العمال عامة.